شبكة النبأ: منذ أن بدأ الانسان
بالتحول من حالة عدم الاستقرار والجري وراء غذائه أينما كان، الى
الثبات، بدأت أشكال عديدة من التجمعات البشرية تتكون هنا وهناك، ومع
تطور هذه التجمعات، أخذت الحياة الجماعية تتعقد أكثر وتحتاج الى ادارة
وقيادة في مختلف شؤون الحياة، من هنا ظهرت الحاجة الى الزعامة والحكم
لادارة شؤون الناس، مقابل أن يتنازل هؤلاء الناس عن بعض حرياتهم لصالح
الزعيم او الحاكم، أو شيخ العشيرة وما شابه.
وقد أثبتت جميع التجارب التاريخية التي تتعلق بحكم الامم والشعوب،
أن الحكم والسلطة يجب أن تتم وفق عقد ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم،
على أن يلتزم الطرفان ببنود هذا العقد، وأن أي خلل في التنفيذ من اي
طرف وخاصة الحاكم (المستأثر بالسلطة) سيؤدي الى بطلان العقد، كما اثبتت
التجارب بشكل قاطع، أن احترام بنود العقد يؤدي الى بناء دولة مدنية
ناجحة مستقرة.
دور الاستشارة في الحكم
مصطلح الاستشارة هنا، يقابل مصطلح الديمقراطية، أو انتهاج المبدأ
الديمقراطي في ادارة الحكم، لذلك في غياب الاستشارة، لا يمكن بناء دولة
مدنية، تحمي الجميع وتعدل بين الجميع، واذا حدث خلل في هذه المعادلة (الاستشارة
= الحكم) بمعنى الاستشارة تعادل الحكم، فإن كل شيء يتعلق بحياة الشعب
او الامة سيختّل، وسوف تحدث صراعات وتعقيدات تؤدي بالنتيجة الى فقدا
الثقة بين الحاكم والمواطن، لذا لابد من الاستشارة في جميع شؤون الامة.
يقول الامام الشيرازي، آية الله العظمى، محمد الحسيني الشيرازي (رحمه
الله) في كتابه القيّم الموسوم بـ (الفقه: الشورى)، بهذا الخصوص: (كل
شيء يرتبط بشؤون الأمـة لابـدّ مـن الاستشـارة فيه).
هكذا تتضح لنا القيمة الكبرى للاستشارة في تحقيق عملية التوازن في
السلطة، لأن عدم الاستشارة سيؤدي حتما الى تركيز السلطة المستبدة في
النظام الحاكم ومن ينتمي اليه من الحاشية والمعاونين والمقربين ايضا،
وبالتالي سوف يسود نظام اللاعدالة في التعامل مع الكفاءات والقدرات
والمهارات التي يتمتع بها افرد الامة او الشعب، من هنا فإن الاستشارة
والتقدم صنوان لا يفترقان، بمعنى أن الديمقراطية الحقيقية غالبا ما
تقود الشعب نحو التطور والازدهار، اما غياب او ضعف الاستشارة
والديمقراطية، فإنه يؤدي الى الضعف والتراجع نتيجة تغييب الكفاءات
وتصدر الجهل لادارة شؤون الامة.
يقول الامام الشيرازي في هذا المضمار بكتابه المذكور نفسه: (إذا
طبِّقت الاستشارة في كل هذه الشؤون، من القرية إلى المدينة، ومن اتحاد
الطلبة إلى اكبر إدارة للشؤون الاجتماعية ، تظهر الكفاءات، وتتقدم عجلة
الحياة إلى الأمام بسرعة كبيرة).
حجم الاستبداد متشابه
ان الشورى كما هو متفق بين الجميع، تعمل على مقارعة واضعاف
الاستبداد، وهنا تحديدا تكمن اهمية الشورى في ادارة شؤون الدولة
المدنية، لذلك يتضمن العقد القائم بين الحاكم والمواطن، الزاما تاما
بمبدأ الشورى في ادارة البلاد، وأن الحاكم الذي يحيد عن هذا الشرط سوف
يخرج عن التزامه ببنود العقد، ولذلك يلجأ مثل هؤلاء الحكام الى سرقة
السلطة والاستئثار بها من خلال عدم الالتزام بمضامين العقد المبرم مع
المواطن.
علما ان الستشارة، لا تستثني جانبا من جوانب الحياة، فكل الامور
مهما كانت صغيرة او كبيرة، ينبغي أن تخضع للشورى، يقول الامام الشيرازي
في هذا المجال بكتابه نفسه: إن الشورى تشمل (أي أمر مرتبط بقطاع من
الأَمة صغيراً وكبيراً، فالاستبداد في الأمة بالحكم محرم، حراماً بحجم
الأمة. والاستبداد في اتحاد الطلبة ـ مثلاًـ حرام بحجم اتحاد الطلبة،
إذ معنى الاستـبداد هو الاستئثار بحق الآخـرين حقاً مالياً أو حقاً
جسدياً أو حقاً اعتبارياً).
ويضرب لنا الامام الشيرازي مثالا بهذا الصدد تقريبا للفكرة، فيقول
سماحته: إن (من يستولي على اتحاد الطلبة بدون الشروط التي وضعها الله
سبحانه ووضعتها الأمة، وعددهم مثلاً ألف، سيفعل ألف حرام، بينما من
يستولي على بلدٍ ذي خمسين مليوناً يفعل خمسين مليوناً عملاً محرماً).
وهكذا يتضح أن الاستبداد لا يختلف من حيث المعنى، فهو واحد واهدافه
واحدة سواءا تعلق الامر بدولة كبيرة او بمنظمة صغيرة مثل اتحاد الطلبة،
لذا ينبغي مقارعة الاستبداد على كل المستويات من اجل بناء الدولة
المدنية الناجحة.
التصرف بالمال والنفس
ان العقد الذي يبرم بين الحاكم والمواطن، يجيز للحاكم التصرف
بالثروات التي تعود للمواطنين، أو ما يسمى بالمال العام، ولكن هذا لا
يعني أن الحاكم يتصرف بهذا المال، او بنفوس المواطنين (في الحروب مثلا)
كما يرغب هو، أو كما تفرض عليه رغباته التي قد تكون خاطئة، مثال ذلك
الحكام الطواغيت الذين لا تملأ شهيتهم سوى اراقة الدماء، وقد حكى لنا
التاريخ قصصا كثيرة عن مثل هؤلاء الحكام المستبدين الذين زجوا بشعوبهم
في معارك وحروب طاحنة من اجل صنع المجد الشخصي لا اكثر، لذا يقول
الامام الشيرازي بهذا الخصوص في كتابه نفسه: (يجب الأخذ بالمشورة بقدر
تحقق إجازة التصرف في المال والنفس لا أكثر ولا أقل).
السبب الذي يحتم علينا كمواطنين وحكام، للالتزام بالاستشارة انها
تساعدنا على حفظ الحقوق، وهي بمثابة صمام الامان الذي يمنع من الانزلاق
في مهاوي الانحراف، لاسيما بالنسبة للحكام، كما يؤكد الامام الشيرازي
ذلك في قوله: (إنّ الاستشارية سواء في الحكومات الزمنية ـ مما تسمى
بالديمقراطيةـ أو في الحكومة الإسلامية هي صمام الأمان، وذلك لأنّ
الناس كما يحتاجون إلى ملء بطونهم، يحتاجون إلى ملء أذهانهم).
ويضيف الامام الشيرازي قائلا في هذا المجال: (لا يكفي للحاكم
الإسلامي ان يُطبّق مبادئ الإسلام وقوانينه، بدون تطبيق مبدأ الشورى
الذي هو ركن من أركان الحكم في الإسلام، ذلك لأنّ الناس عندما يرون
أنهُ لم يُطبَّق قانون الإسلام الذي هو الشورى ينفضّون من حوله ثم
يثورون عليه حـتى إسقاطه). |