الانسان والحرية والجدران

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: الحرية سؤال الانسان الوجودي، وهو اجابتها في نفس الوقت... شغل سؤال الحرية منذ بواكير الوعي الاولى الكثير من المفكرين والفلاسفة.. كان السؤال في بدئه ما تفرضه طبيعة العلاقات الجديدة التي تنشأ بين الناس في حراكهم اليومي، وربما سبقته اسئلة عن معنى الوجود ودور الانسان فيه، مما تظافرت الميثولوجيا والاساطير على صياغة عدة اجوبة لهذا السؤال الوجودي المهم.

الاديان بدورها لم تبخل في مد يد العون وهي تجيب عن سؤال الحرية، واعتبرت الاجابة عنه من بديهيات تعاليمها، كيف لا والانسان حر منذ ولادته وحتى مماته، او هكذا ما يفترض ان يكون عليه تبعا للتدبير الالهي في خلقته، وما يريده من هذه الخلفة وهي الاستخلاف في الارض وعمارتها، ولابناء واعمار دون حرية، فالعبيد لا يبنون.

في الفلسفة غابت الكثير من البديهيات في محاولة الاجابة عن السؤال تبعا للمدارس والتوجهات.. واخذ السؤال تحيط به اطر نظرية كثيرة حتى اصبح من المجازفة في كثير من الاحيان طرح السؤال القديم هل الانسان حر بالفطرة ام ان الحرية شيء مكتسب؟

على هامش تلك الاسئلة، غابت البديهيات، وغاب المبدأ العام للانسانية، واصبح الانسان عبدا لكثير من القيود والحواجز والجدران التي صنعها بنفسه، وهو بين فترة واخرى يحاول تكسيرها والعبور من خلالها الى ما كان عليه في بدء خلقته..

والحرية في استعمالها الاعتيادي السائر تعني غياب القيود والتحديدات. ويكون الافراد احرارا حين لا يوقفهم احد عن متابعة اهدافهم او القيام بما يرغبون في القيام به. تكمن الحرية كما يرى مؤلفو كتاب (مفاتيح اصطلاحية جديدة) في قدرتنا على ان نتصرف او لا نتصرف بحسب ما نختاره او نريده.

تحظى الحرية بالتقدير لاسباب كثيرة. فهي شرط طبيعي لجميع الكائنات الحية، وفي المقدمة منها الانسان، لذلك لا تحتاج الحرية الى تبرير، بل القيود عليها وحدها هي التي تحتاج الى تبرير. فالكائنات الانسانية مقدسة،، وغايات في ذاتها، والحرية هي شعار كرامتها ومصدر احترامها لذاتها وكبريائها معا.

ومادامت افعال الفرد تؤثر في الاخرين وتحد من حريتهم، فان الحرية لا يمكن ان تكون مطلقة ابدا. اذ يبتكر كل مجتمع منظومة من الضوابط، فيعتمد على اشياء مثل الاعراف الاجتماعية والقواعد الاخلاقية والراي العام والقوانين التي تقويه.

منذ اللحظة الاولى لتشكله وحتى ما يتبع اخر لحظاته وهو حي، يعيش الانسان في قبضة جدران متنوعة وعديدة. فهو في اللحظة الاولى لتشكله يحيط به رحم امه وهو اول جدار قبل ان يولد، ثم تاتي الجدران تباعا، جدار البيت والمدرسة والجامعة والدائرة الحكومية واخيرا جدران القبر التي تضغط على الروح قبل الجسد الذي لا حراك فيه. وغير ذلك كثير من الجدران تبعا لحركة الانسان داخل مجتمعه.

وغير الجدران المادية تلك هناك الجدران الرمزية والنفسية والاجتماعية والتي تتشكل عبر القيود والقيم والمفاهيم، الموجودة في اي مجتمع من المجتمعات.

ولعل ابرز نتاج لهذا الثالوث الذي عنونا به الموضوع هو جدار برلين،الذي أعلن اوباما تاريخ سقوطه في التاسع من نوفمبر (يوم الحرية العالمي). وبموجب قرار رئاسي بتوقيع اوباما، أصبح يوم 9 نوفمبر من كل عام يوماً لإحياء ذكرى الحرية. وقال اوباما في بيان لإعلان هذا القرار ان «الستار الحديدي الذي قسم أوروبا لعقود سقط ليدخل عصر جديد من الحرية والتعاون. وفي هذه الذكرى، نتذكر أنه لا يوجد تحد اكبر من (قدرة) عالم متحد بهدف مشترك». وأضاف: «بعد عشرين عاما، عالمنا صار أكثر تواصلا من أي وقت آخر في تاريخ الإنسانية مما يمكن فرص جديدة لتقدم مشترك». واعتبر أن «الحواجز التي تتحدى عالمنا اليوم ليست جدرانا من الاسمنت والحديد بل تلك المتكونة من الخوف وعدم المسؤولية وعدم الاهتمام». موضحاً أن «التاريخ يذكرنا أنه يمكن هدم مثل هذه الحواجز لكن في المناطق التي ما زالت توجد علينا أن نعمل مع كل الدول لتقوية المجتمعات المدنية ودعم المؤسسات الديمقراطية وسيادة القانون ودعم عمليات الانتخابات الحرة والعادلة».

ما هو جدار برلين؟

كان جدارا طويلا يفصل شطري برلين الشرقي والغربي والمناطق المحيطة في ألمانيا الشرقية. كان الغرض منه تحجيم المرور بين برلين الغربية وألمانيا الشرقية. بدأ بناءه في 13 أغسطس 1961 وجرى تحصينه على مدار السنين، ولكن تم فتحه في 9 نوفمبر 1989 وهدم بعد ذلك بشكل شبه كامل.

في عام 1949 بعد قيام جمهورية ألمانيا الاتحادية (ألمانيا الغربية) في المناطق المحتلة من قبل الولايات الأمريكية المتحدة، والمملكة المتحدة وفرنسا، وقيام جمهورية ألمانيا الديمقراطية (ألمانيا الشرقية) بعد ذلك في المنطقة المحتلة من قبل السوفييت، بدأ العمل على قدم وساق على حدود كلا البلدين لتأمينها، وبقيام كيانين، دَعم التقسييم السياسي لألمانيا، وبين ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية، وضع بشكل أولي شرطة وحرس الحدود، ولاحقا على الطرف الشرقي بدء وضع الاسيجة، رسميا كانت مدينة برلين المقسمة أربعة أقسام منطقة خالية من العسكر، وكانت مستقلة عن الدولتين الالمانيتين الجديدتين، ولكن عمليا لم يكن الحال كذلك، المناطق الغربية من برلين أصبحت اقرب إلى كونها ولاية ألمانية غربية، وخلافا للمعاهدات اعلنت برلين الشرقية عاصمة لجمهورية ألمانيا الديمقراطية.

مع زيادة حدّة الحرب الباردة التي من جملة ما أدّت إليه تقييد في الحركة التجارية مع المعسكر الشرقي خلقت معارك ديبلوماسية صغيرة مستمرة بالإضافة لسباق في التسلح، بدء أيضا تعزيز الحدود، وحدود جمهورية ألمانيا الديمقراطية لم تعد حدود بين أقسام ألمانيا، بل أصبحت الحدود بين المعسكر الشرقي والغربي، بين حلف وارسو وحلف الناتو، أي بين ايدولوجيتين سياسيتين مختلفتين، بين قطبين اقتصاديين وثقافيين كبيرين.

ومنذ تأسيس جمهورية ألمانيا الاشتراكية، بدأ انتقال أعداد متزايدة من مواطنيها إلى ألمانيا الغربية، وعلى وجه الخصوص عبر برلين، التي كانت من شبه المستحيل مراقبة الحدود فيها، حيث كانت الحدود تمر في وسط المدينة واحيائها. وبين عامي 1949 إلى 1961 ترك قرابة 3 ملايين ألماني جمهورية ألمانيا الاشتراكية. وحيث انهم كانوا في معظم الأحيان من الفئة المتعلمة، هدد ذلك القدرة الاقتصادية لألمانيا الشرقية، وهدد كيان الدولة ككل. وكان سور برلين بذلك الوسيلة لمنع هذه الهجرة، وقبل بناء السور أو الجدار، كانت القوات الألمانية الشرقية تراقب وتفحص التحركات على الطرق المؤدية إلى غرب برلين بحثا عن اللاجئين والمهربين.

ولا يمكن اهمال حقيقة كون الكثير من سكان برلين الغربية والشرقيين العاملين في برلين الغربية حصلوا بتبادل العملة في السوق السوداء على ميزة الحصول على المواد الأساسية باسعار مغرية وقلة شرائهم للكماليات العالية القيمة من الشرق، الأمر الذي كان يضعف الاقتصاد في برلين الشرقية أكثر فأكثر.

بتاريخ 9 نوفمبر من عام 1989، بعد أكثر من 28 عاما على بنائه الذي اعتبر تقسيم لمدينة وتقسيم لشعب، أعلن للصحافة أن قيود التنقل بين الالمانيتيين قد رفعت، فتوجهت أعداد كبيرة من الألمان الشرقيين عبر الحدود المفتوحة إلى برلين الغربية، واعتبر هذا اليوم يوم سقوط جدار برلين.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 11/تشرين الثاني/2012 - 26/ذو االحجة/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م