أرباب القريض

يتقصون جدلية الخلود في فردوس القوافي

د. نضير الخزرجي

في غابر الأزمان وقبل اكتشاف المرآة أو تصنيعها، كانت صفحة الماء في حوض أو طشت في بقعة راكدة هي المرآة يرى فيها المرء وجهه وصورته، وقبل هذا وذاك فإن المرء للمرء مرآة يطل أحدهما على الآخر، ولما تم تصنيع المرآة فإنها دخلت كل بيت، بل أصبحت جزءاً من جهاز العرس وبها تقيس العروس حظوظها، حتى إذا أصابها الخدش أو تهشمت كتبت على نفسها سوء الحظ مدى الحياة، وهو عرف اجتماعي قائم في كثير من المجتمعات البشرية، وذلك لخصوصية المرآة الدالة على الصفاء والنقاء، فما من مكان عام أو خاص إلا ويجد المرء أمامه مرآة يطل من خلالها على هندامه وشكله يحسن أو يعدل، فلم تعد المرآة حاجة كمالية نعود اليها وقت الحاجة، بل هي ممارسة يومية تبدأ من الصباح عندما يهم المرء بالخروج الى محل عمله وتنتهي بالليل عندما تتعرض المرأة لزوجها بأناقتها حتى وإن زحفت بها السنون إلى ما بعد سن اليأس، دورة يومية من الجمال الإنسي المأنوس، تمثل جزءاً من الجمالية الكونية الفطرية، والله جميل يجب الجمال.

ولاشك أنَّ المرآة صارت لازمة من لوازم الحياة اليومية للدور الكبير الذي تؤديه على مستوى جمالية الفرد وسلامة العلاقات العامة، ولكن ماذا عن المستوى العام؟ ما هي المرآة التي ينظر إليها المجتمع ليرى فيها محاسنه وعيوبه، ومن الذي يدلّيه عليها ويرشدها إليها ليصلح ما فسد من صورته؟

لا نعدم الإجابة في مثل هذا السؤال، وقد تعددت، فربما أرجعها البعض الى القانون الذي يحتكم اليه الناس فيكون هو الفيصل والمرآة في بيان العيوب وإصلاحها، وقد تكون الأعراف الإجتماعية التي يتحاكم عندها الناس فتكون هي المقومة للعيوب، وقد يصح غير القانون والأعراف، ولكنها تبقى غير كافية، وإلا لما احتاجت البشرية إلى الكتب المنزلة وإلى 124 ألف نبي ومرسل لتقويم مسار المجتمعات، ولما كان الحديث عن المرآة فيعني البحث عن طرف آخر يتم اللجوء إليه هو بمثابة المرآة لاكتشاف النقاط السود في صفحة حياة المجتمع، ولعلّ واحدة من السبل الكفيلة في هذا السبيل وأنجعها هو النظر إلى مسار وسلوك المجتمعات الأخرى القائمة والغابرة، فيتم عبر القائمة تحسين المحسنات وتكميلها ومن الغابرة رفع السيئات وتجنبها، ولذلك فإن دعوة القرآن الكريم تتجه نحو الأخذ بحسنات الآخرين والعمل بها وتجنب سيئات الماضين حتى لا تقع الأمة في الهاوية التي سقطت بها الأمم السالفة فتكون في خبر كان وتصبح هي محل العبرة للآخرين، وفي ذلك يرشدنا تعالى بقوله: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) آل عمران: 137، وقوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) الحج: 46، وقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ) يوسف: 109، وفي الأثر، قيل للقمان الحكيم: من أين تعلمت الأدب؟ قال: من قليلي الأدب.

وبتعبير آخر أنَّ الأمة يخلد ذكرها عندما تكون قدوة للآخرين، ولا تكون كذلك إذا لم تعتبر من الأمم السالفة، وعندها تكون المثل الأعلى وأسوة لغيرها، ولذلك قال الله تعالى في الأمة الإسلامية إذا ما اتبعت سبيل الرشاد بأنها الأمة الوسط: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) البقرة: 143.

مَن يُخلِّد مَن!

سقت هذه المقدمة، وأنا أتناول بالقراءة الأدبية الجزء الثالث من كتاب "معجم الشعراء الناظمين في الحسين" للفقيه الأديب الشيخ محمد صادق الكرباسي الصادر في طبعته الأولى عام 1432هـ (2011م) عن المركز الحسيني للدراسات بلندن في 529 صفحة من القطع الوزيري، لأنَّ في القصيدة طرفين رئيسين هو الناظم والقصيدة نفسها، وقد خَلُدت قصائد وخَلُد شعراء، ولمع شأن شعراء رغم ضياع شعرهم كله أو جله أو بعضه، وقد طارت في الآفاق أبيات وقصائد دون أنْ يُخلَّد ناظمها أو أن يُعرف فيُنسب الى الأعرابي تارة وإلى الهاتف تارة أخرى وإلى الجن ثالثة، وهكذا، ومن المسلَّم به أن الشعر هو مرآة الشاعر بها نعرف مكنوناته، فيبدر إلى الذهن السؤال السالف الذكر: من هو مرآة الآخر هل هو الشاعر أم الشعر نفسه؟ وبتعبير آخر مَن يُخلِّد مَن؟ هل يُخلَّدُ الشاعرُ بالشعر أمْ يُخلَّدُ الشعرُ بالشاعر؟ إنها جدلية الخلود في فردوس القوافي.

سؤال تعددت فيه الإجابة وربما تضاربت، لكن الشعراء أنفسهم لهم رأيهم، ومن ذلك ما أورده الأديب الكرباسي من شعر في سياق ترجمة سيرة الشاعر العراقي أحمد بن حميد السماوي المتوفى عام 1401هـ 1980م، فالسماوي وهو يرثي العلامة الشيخ جعفر حيدر آل وثال المنتفقي المتوفى سنة 1372هـ (1952م)، يدلي بدلوه فيرى أن الشاعر هو مرآة الشعر وبه يخلد تماما مثلما هي المكرمات بها يخلد العظماء، فينشد (من الكامل):

التوأمان الدمعُ والإيحاء ... ما شئت –أيهما- عليك رثاءُ

ولأنت أسمى حين تُرثى بالبُكا ... ولو أن ما يُبكي به الأنواءُ

والشعرُ دون عُلاك حين تقوله ... لكن لتُحرز مجدَها الشعراءُ

فالشعرُ بالعظماء يخلدُ مثلما ... بالمكرمات يُخلَّدُ العظماءُ

ولكن السماوي هنا يزيد في بيان الصورة وصفائها معلنا أن الشعر لا يخلد بذاته حتى وإن كان للشاعر باع كبير في مضمار الإنشاء، وإنما العظيم الذي أُنشئ له الشعر هو الذي يضخ في الشعر ماء الحياة والبقاء وهو الذي ينفث في الشاعر روح الخلود، وكأن الشاعر هنا يريد أن يذكرنا بكعب بن زهير بن أبي سلمى (26هـ) ولاميته في مدح النبي الأكرم محمد (ص) من بحر البسيط:

بانت سعادُ فقلبي اليوم متبول ... متيَّمٌ إثرها لم يُفد مكبولُ

 أو بدعبل بن علي الخزاعي (184- 246هـ) وقصيدته التائية في رثاء أهل البيت(ع) من بحر الطويل:

مدارس آيات خلت من تلاوة ... ومنزل وحي مقفر العرصات

فالقصيدتان وأمثالهما خلدتا لأن الذي وقع عليه المدح أو الرثاء هو عظيم بذاته، وبالتالي خلُد الشعر والشاعر، وهذه نزعة إنسانية، فكل إنسان يحب أن يبقى ذكره، فإذا لم يجد في نفسه ما يخلدها عمد الى كبير أو عظيم أو مشهور يلتصق به، فالشاعر بشعر ينظمه، والأديب بقطعة ينضدها، وبعضهم يعمد إلى التقاط صورة أو أخذ توقيع ليفتخر به كما هو الحاصل اليوم في عالم الفن والرياضة والسياسة وغيرها.

البحث في المجهول

ربما يستسهل البعض فكرة المعاجم وبخاصة معاجم الأشخاص وسيرهم الذاتية، فيرى أنها عبارة عن تجميع للمعلومات الواضحة المعالم المنتشرة هنا أو هناك، أو الطلب من المعني مباشرة سيرته الذاتية، وبعضهم يعمد الى استحصال أموال مقابل نشر السيرة الذاتية معتبراً كتابة السيرة نوعاً من المهنة والمتاجرة بخاصة إذا كان المصنف لا يتورع عن كيل المديح مقابل المال وبلا ميزان أو مكيال، وقد اكتشفت من خلال العمل التحقيقي في دائرة المعارف الحسينية أن البعض من المصنفين يعمد في الطبعة الثانية لمعجمه إلى حذف شخصيات وسد الفراغ بشخصيات جديدة، إما لكراهية استجدت لدى المؤلف تجاه الشخصية المترجمة، أو أنه استحصل أموالاً من جهات معينة لطمس معالم الشخصية المترجمة في الطبعة الأولى لدواعٍ مختلفة، فالقاسم في كل الأحوال إما العداء الشخصي أو المال، ومن يعمد الى مثل هذه الأساليب غير المرضية في عالم التحقيق، فهو في حقيقة الأمر ليس بمحقق أو باحث، فالمحقق الواقعي وصاحب المعجم هو الذي عند الكتابة يتجرد عن الأهواء الشخصية والأغراض المادية فيترجم للشخص بحيادية وينقده في مجال النقد بشفافية ويضع نفسه مع جميع المترجم لهم على مسافة واحدة من قريب أو صديق أو غريب أو عدو.

ولعلَّ أهم صفة في المحقق الواقعي هو أن يذهب الى المعلومة لا أن تأتي إليه، يتسقَّطها هنا وهناك دون أن يعبأ بالمال أو الزمن، مادامت الحقيقة هي دأبه ومطلبه، وهذه الصفة وجدتها عند المحقق الكرباسي ليس في معجم الشعراء فحسب، بل في كل الأبواب الستين من دائرة المعارف الحسينية، ومن يتابع هذه المعجم وغيره من المعاجم المتفرقة يلحظ هذا الأمر ويكتشفه، ولكني وبحكم المعاشرة اليومية واحتكاكي المباشر بسير التحقيق، أجد حجم المعاناة للبحث عن معلومة، فبإمكانه تجاوزها ادخاراً للوقت والجهد والمال وصرفها في كتابات أخرى، ولكن الإصرار المعرفي المطعَّم بحب الإكتشاف والتواضع للعلم والعلماء هو الذي يذلل عنده كل المصاعب، وفي الجزء الثالث من معجم الشعراء عدد غير قليل من الناظمين ظل المؤلف يبحث عنهم وعن سيرهم ونتاجاتهم بطرق شتى، ولعل الشاعر أحمد بن عبد الله سرحان النويدراتي المولود في قرية المعامير البحرينية عام 1948م واحد من هذه الشواهد، فما عند المؤلف عن النويدراتي هي قصيدة واحدة في الإمام الحسين(ع) نشرت في مجلة المواقف البحرينية عام 1974م، ثم انقطعت أخبار الشاعر، وراح المؤلف يبحث عنه في المصادر المتوفرة لديه ومن شعراء البحرين ولكن لا أثر له، ولما كانت المعلومة كالصيد الثمين لا يدخل مضمار البحث عنه إلا المغامر الصبور، فإنَّ صبر المحقق الكرباسي جعلته يبحث عن الشاعر في موارد أخرى غير الشعر، حتى اهتدى إلى أحد العاملين في الصحافة البحرينية يتشابه مع المطلوب في الإسم، وكانت المفاجأة أن الشخص المعني من خلال الإتصال الهاتفي استغرب الإتصال، وزاد استغرابه عندما عرف أن المؤلف يبحث عن السيرة الذاتية لشاعر نظم في الإمام الحسين يظنه أنه هو، لم ينف الأستاذ أحمد عبد الله سرحان النويدراتي معرفته بالشعر وبالمجلة، ولكن المسافة الزمنية الطويلة لم تسعفه الذاكرة التعرف على القصيدة من خلال الهاتف إلا بعد أن رآى نسخة من مجلة المواقف البحرينية التي نشرت القصيدة وبها عاد القهقرى إلى أربعين عاماً مضت، لأن خمسة عشر عاماً من السجن لأمور سياسية، وتفرغه لفن الخط أنساه عالم الشعر، ولكن الأديب الكرباسي لم ينسه ولا يمكن أن ينسى من نظم في الإمام الحسين(ع) حتى ولو ببيت شعر واحد، فكما يضم معجم الشعراء أصحاب المطولات، يضم أصحاب القطع والبيت أو البيتين، وكما يضم المعروفين يضم المنسيين، فيكون المعجم خير دليل للأمة للتعرف على أمثال الشاعر المنسي أحمد عبد الله السرحان النويدراتي الذي ذكره المؤلف بعد أن نسيه الناس وعرفوا فيه فن الخط وغفلوا شاعريته.

ومن محاسن منهج الكرباسي في معجم الشعراء، أن القارئ يقف على نماذج مختلفة من شعر الشاعر المترجم له، في الأغراض المختلفة، وبالأنماط الشعرية المتنوعة، من قريض أو دارج، من عمودي أو حر أو نثر مقفى، فتتكامل الصورة الشعرية عن الشاعر، فيُعرف ما إذا كان ضليعاً في القريض أو يقف على ناصية القريض والدارج، أو ناثراً وناظما، وما إلى ذلك من أنماط المنظوم والمنثور، فيغوص في الجوانب الأدبية ولا يطرق الأبواب الشخصية، يقتحم حريم الأولى ويحترم خصوصيات الثانية.

الليل وأغراضه

رغم أن معجم الشعراء ليس ممحضاً في استعراض قصائد الشعراء، بقدر ما هو بيان لسيرتهم الشعرية، إذ نجد مقتطفات شعرية لهذا أو ذاك في أغراض شتى، لكن الجمالية في هذا الكشكول أن القارئ يقترب من ضمير الشاعر، ويقترب أكثر من مكنون الشعراء بخاصة عندما يجتمعون على استخدام مفردة في أبياتهم تعطي عند كل واحد معنى يختلف عن الآخر وإن بدت هي واضحة للعيان في مدلولها.

ومن تلك المفردات كلمة "الليل" التي طالما تغنى بها الشعراء ونام على وسادتها المنشدون والمغنون، فعند بعضهم دالة على الغم والهم والأرق والمصيبة، وعند بعضهم دالة على التفكير وطلب العلم والعبادة، وعند بعضهم تشير إلى الفرح والسرور وزيارة الصديق أو مقابلة الحبيب.

فالشاعر العراقي أحمد بن حسين الحلي الأسدي المتوفى عام 877هـ (1472م) يقرن الليل بمصائب الدهر وشدائده، فيشكو (من الوافر) خيانة الصديق ويرى أن المصيبة والليل سيان، فينشد ناعيا نفسه من غدر الزمان وخيانة الخلان:

إذا خان الخليلُ وما وفى لي ... شكوت الضرَّ من أمر الليالي

تحطُّ بي النوائب كلَّ يومٍ ... وقد حثَّ الزمانَ على قتالي

وهذا الشاعر الهمذاني أحمد بن الحسين الذي عاش في أفغانستان والمتوفى عام 398هـ (1008م)، يشكو من وجع الحبيبة وطول الليل، فينشد من مجزوء الكامل:

ومليحة ترنو بنر ... جسة وتبسم عن أقاح

قامت وقد برد الحلي ... تميس في ثني الوشاح

يا ليل هل لك من صبا ... ح أم لنجمك من براح؟

ويسعى الشاعر السوري أحمد بن رشيد مندو المتوفى عام 1388هـ (1968م)، إلى الهروب من اللحاظ القاتلة للحبيبة ولكنه غير قادر لأن الحب متأصل في الرجال ولا مندوحة عنه، فينشد من الوافر:

ومنها كلما حاولت فرّاً ... رمتني بانهيار وانحلال

فأخضع للهوى طوعاً وقسراً ... ويحلو لي به سهرُ الليالي

ومن أسر الهوى مالي فرارٌ ... وإنَّ الحب من شيم الرجال

وهذا الشاعر العراقي السيد أحمد بن رضا الهندي الموسوي المتوفى عام 1392هـ (1972م)، يتوجع في الليل من ألم الحب الواجد ويتأسف على النائمين، فينشد من الخفيف:

يا سميري في الليلِ والليلُ سائدْ ... لا تنبه من العنادل راقدْ

ودَعِ الهاجدَ الذي نَسِيَ الحُبَّ ... فإنَّ الكَرَى نصيبُ الهاجدْ

أسرف النائمون إذ هجروا الليــ ... ــل وفيه للعاشقين مشاهدْ

إلى أن يقول بعد أن يذكر عذاباته مع الحبيبة:

لك يا ليل من فؤادي محل ... أبداً لا يحله منك واحد

وهذا الشاعر المصري أحمد بن علي بن أحمد شوقي المتوفى عام 1351هـ (1932م) يبكي دمشق وما حلَّ بها والدمع المنهمر الذي لا يتوقف والليل الذي يحمل الموت الزؤام، فينشد من الوافر:

سلام من صبا بَرَدى أرقُّ ... ودمعٌ لا يُكفكَفُ يا دمشقُ

إذا رُمت السلامة من طريقٍ ... أتت من دونه للموت طُرْقُ

بليلٍ للقذائف والمنايا ... وراء سمائه خطفٌ وصَعْقُ

والشواهد كثيرة في هذا الديوان، ولكن النماذج تعطي صورة عن استخدامات الليل في أبيات الشعراء، بيد أن الغالب على هذه المفردة استعمالها في الدلالة الظلامية الذاهبة إلى السوداوية في النفس أو الزمن، ومع كل هذا يبقى الليل عند قلة قليلة من الناس أحلى من السكر وألذ من الشهد، فهو محل المناجاة مع الحبيب وتفريغ النفس من هموم النهار واستقبال اليوم التالي بنفس مطمئنة تفتح على الذات نوافذ الرضا وعلى الآخر أبواب المحبة والخير والقبول الحسن.

شاعر ووطن

ألزم الأديب الكرباسي في باب معجم الشعراء على نفسه ترجمة الشاعر في نحو عشر صفحات ليستوفي المترجم له حقه من بيان السيرة الذاتية والشعرية، فيعمد الى بيان معنى اسمه ولقبه وشرح تفاصيل المدينة التي ولد فيها أو نشأ، لاسيما إذا كان يُنسب إليها، لإيمان المؤلف أن للمدينة مدخلية كبرى في نشأة الشاعر أو بالعكس.

وضم الجزء الثالث من معجم الشعراء 45 شاعراً أحياءً وأمواتا من القرن الرابع الهجري وحتى يومنا هذا جمعهم حرف الألف فقط ممتداً إلى "الألف حاء" فجاؤوا كلهم بإسم (أحمد)، بعد أن استنفذ الجزء الأول والثاني حروف الباء والتاء والثاء والجيم في إطار حرف الألف، مما يقطع بحجم هذا الباب وبالكثرة الكثيرة من الشعراء في أقطار متنوعة نظموا في الإمام الحسين(ع) بوصفه رائد الإصلاح.

وقد توزعت التراجم على الدول التالية:

السعودية وقد استأثرت بالنصيب الأكبر لثلاثة عشر شاعراً وهم: أحمد زين الدين الأحسائي (1753- 1826م)، أحمد سلمان الراشد (1917- ق21م)، أحمد صالح البلادي (000- 1712م)، أحمد عبد الباقي آل قمبر (1982- ...م)، أحمد عبد الخالق الحفظي (1806- 1877م)، أحمد عبد الرحمان العناياتي (1526- 1605م)، أحمد عبد العظيم التاروتي (1986- ...م)، أحمد عبد الله الشايب (1846- 1914م)، أحمد عبد الله العوي (1922- 2000م)، أحمد عبد الله قمبر (...- ...م) أحمد عبد الله اللويم (1961- ...م)، أحمد عبد الوهاب العامر (1973- ...م)، وأحمد علي الناصر (...- ...).

ويليها العراق اثنتا عشرة ترجمة، وهم على التوالي: أحمد حسين الحلي (أواخر ق14- 1472م)، أحمد حميد السماوي (1922- 1980م)، أحمد حميد القزويني (1927- 1992م)، أحمد درويش علي الحائري (1845- 1911م)، أحمد رضا الهندي الموسوي (1902- 1972م)، أحمد سلمان الصائغ الكوفي (1906- 1999م)، أحمد صادق الفحام (1774- 1857م)، أحمد صالح السلامي (1946- 2005م)، أحمد علاوي المزعل المسعودي (1931م- ...م)، أحمد علي النواب (1824- 1894م)، أحمد عيسى الهاشمي (1119- 1199م)، وأحمد كاظم الرشتي الحائري (1813- 1878م).

وبعد السعودية والعراق تأتي سوريا في المرتبة الثالثة من خمسة شعراء هم: أحمد رشيد مندو الإدلبي (1898- 1968م)، أحمد شاهين القبرسي (1586- 1643م)، أحمد صالح السنبلي (1218- 1293م)، أحمد عبد الله المعري (973- 1058م)، وأحمد علي حسن الطرطوسي (1916م - 2000م).

فيما تأتي البحرين بالمرتبة الرابعة من أربعة شعراء وهم: أحمد صالح الطعان (1835- 1898م)، أحمد عبد الرؤوف الجدحفصي (1650- 1718م)، أحمد عبد الله سرحان النويدراتي (1948- ...م)، وأحمد عبد الله المتوج البحراني (1344- 1417م).

وتليها مصر في المرتبة الخامسة من ثلاثة شعراء هم: أحمد عبد الحفيظ شحاتة (1944- ...م)، أحمد علي أحمد شوقي (1868- 1932م)، وأحمد علي الغسّاني (1087- 1167م).

ومن إيران شاعران هما: أحمد حسين الهمذاني (969- 1008م)، وأحمد علوية الإصفهاني (827- 932م). ومثلها من لبنان هما: أحمد سليمان الظاهر (1912- 2000م)، وأحمد علي العيناثي (1552- 1606م). فيما توزع الشعراء الباقون على تركيا: أحمد سليمان الريحاني (1914- 1968م)، والجزائر: أحمد الطيب معاش الباتني (1926- 2005م)، وفلسطين أحمد خضر دحبور الحيفاوي (1946- ...م)، والمغرب أحمد عبد السلام الجراوي (1134- 1212م).

ومن حيث اختتمنا بالمغرب نظما نختم بالمغرب نثراً والمقدمة الأدبية التي كتبها الداعية المغربي الدكتور أحمد الحسني الحسيني العلمي أمين عام سابق الفيدرالية الوطنية لمسلمي فرنسا، معلقا على الجزء الثالث من معجم الشعراء الناظمين في الحسين، متوغلاً في عمق التاريخ ينطق واقعة كربلاء عام 61هـ ويستنطقها، ورغم مرور القرون على الحدث الجلل: (لا يزال مصرع الحسين السبط بعد أربعة عشر قرناً تقريباً يهز العالم الإسلامي هزّاً عنيفا، ولست أعرف في تاريخ الإنسانية حادثة مفردة تهز المشاعر والوجدان هزّاً عميقاً كحادثة الطف)، ولأنّ الشعر يتناغم مع المشاعر وتشدو قوافيه على أوتار الوجدان، كان هذا العدد الهائل من الشعراء من أقصى الأرض إلى أقصاها رثوا الإمام الحسين(ع).

 لقد انتهى المحقق الكرباسي من ثلاثة أجزاء ولمّا يزل في بداية حرف الألف، ولذلك يرى الداعية المغربي المقيم في مدينة تولوز (طلوشة) الفرنسية: (إننا يجب أن نأمل ونعمل بمواصفات القوي الأمين، الحفيظ العليم الواردة في القرآن الكريم لإكمال المعجم وإتمامه خدمة للأدب والمعرفة ووفاءً للرسول والبتول وعلي الليث الصؤول والحسين المقتول)، وهي دعوة كريمة استفرغ من أجلها الفقيه والأديب محمد صادق الكرباسي كل جهده لا من أجل اتمام هذا الباب من دائرة المعارف الحسينية فحسب، بل الأبواب الستين كلها، ولذلك خرجت من تحت عجلات المطابع حتى النصف الثاني من عام 2012م 77 جزءاً من مجموع ما يزيد على السبعمائة مجلد، والعجلة لازالت تعمل مادام في الصدر نفس يصعد وينزل، وما زال في الأمة بقية رجال يقدرون العلم والعلماء.

* الرأي الآخر للدراسات- لندن

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 7/تشرين الثاني/2012 - 22/ذو االحجة/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م