الوطن بين المفهوم الجغرافي والمعنوي

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: تتحدث لنا الجغرافيا عن مفهوم الوطن بوضوح لا يقبل اللبس، فتؤكد بأنه حيز مكاني له حدود واضحة، يعيش عليه مجموعة من البشر، تحكمهم حكومة، فتنشأ دوله ما، بأركانها المعروفة، وهكذا يكون التعريف الجغرافي المكاني للوطن واضحا، ولكن ينبغي أن لا ينحصر فهمنا وشعورنا بالوطن طبقا للتعريف الجغرافي فقط، بل هناك مفهوم آخر للوطن أكثر شمولية واتساعا، لا ينحصر بالجانب المادي المكاني أو سواه، إنه المفهوم المعنوي.

في الغالب يتصور العراقيون أن الوطن هو العراق المعروف بحدوده الجغرافية حصرا، وقد يحصرون فكرة الوطن بهذه الحدود، وبذا يكون هذا الفهم وهذا الشعور قاصرا عن استيعاب المشتركات الانسانية المهمة التي تعطي مفهوما ذا آفاق واسعة وكبير ولا محدودة للوطن، كذلك هناك حالات وظواهر تطيح بالمواطنة، وتجعلها شعار خال من المعنى والفعل المجسَّد على الارض، بل تحول الوطن الى سجن كبير يخلو من المشتركات الانسانية التي تجمع بين الناس.

إن حصر الوطن بمفهوم قاصر متطرف يفرز نتائج بالغة الضرر على الشعب عموما، لأن حصر الوطن بفئة او انتماء محدد يجعله خاضعا لمربع الاستئثار/ الاحتكار/ الاستحواذ/ الاقصاء، مع انتفاء ما يقابل هذا المربع الخطير وهو التسامح، عند ذاك يتحول الوطن الى سجن تهدر فيه حقوق المواطنين، ويغيب احساس المواطن بالانتماء الحقيقي للوطن، وتتحول الوطنية الى ادّعاء كاذب وشعارات مزيفة، الهدف منها المزايدات والحصول على المكاسب والمنافع المادية التي تتمثل بالمناصب الحساسة والاستحواذ على الاموال بطرق غير قانونية.

 لذا يعد التسامح بما ينطوي عليه من آفاق ومشتركات انسانية واسعة، هو الطريقة المثلى لزرع الروح الوطنية لدى المواطن، لأن التسامح يعني القضاء التام على المربع المذكور سابقا، فحينما تشيع قيمة التسامح بين المواطنين، وتقوم العلاقات المجتمعية كافة وفقا للتسامح المتبادل والحقيقي بين الجميع، فإن الحقوق المدنية والسياسية والوطنية عموما سيتم حفظها للجميع من دون غبن او تجاوز على الحقوق.

وبهذا ستنتشر قيم أخرى مساندة للتسامح وناتجة عن كونه منهجا سلوكيا راسخا بين الناس، أما القيم المساندة للتسامح، فهي تكافؤ الفرص بين عموم المواطنين، والتعايش، وقبول الرأي، والتعددية، والاندماج التام بين جميع مكونات المجتمع، بغض النظر عن طبيعة الانتماء العرقي او الديني او المناطقي او سواه، وبهذا يكون الشعور بالمواطنة قائما على ما يكسبه المواطن من وطنه، مقابل الحقوق التي ينبغي على المواطن تقديمها للوطن الشعب المقيم فيه، مثال ذلك، على المواطن أن يراعي الواجبات الوطنية الملقاة على عاتقه، كالاخلاص في العمل، والابتكار والابداع ونشر القيم الفاضلة، ومقارعة الانحراف وما شاكل، وهناك جوانب اخرى يجب أن ينضبط المواطن ازاءها ويداوم في الالتزام بها، مثل نظافة المدن والاحياء وشوارعها وساحاتها، وسوى ذلك مما يشي بالنظام والالتزام بالقانون والاخلاق وسواها.

إذاً فالحصيلة هي المعادلة التي لا تقبل الخطأ والتي تقول (وطن بلا تسامح = مربع الاستئثار/ الاستحواذ/ الاحتكار/ الاقصاء)، ونحن كعراقيين في هذه المرحلة التأسيسية الكبرى، لا ينبغي ولا يجب لنا أن نسمح للمعادلة اعلاه بالوجود الفاعل والمتحرك في حياتنا، لأننا سنتكاسل ونعجز ويصيبنا الخمول واللامبالاة عن مقارعة المربع المذكور، مع فقدان أكيد لقيمة عظيمة هي قيمة التسامح، التي - فيما لو التزمنا بها كمنهج حياة وفكر- ستتيح لنا المضي في تأسيس وتطوير الدولة العراقية المدنية الراهنة والمستقبلية.

لذلك يبقى التسامح هو البديل الاوحد لكل ظواهر التطرف التي تتعلق بمفهوم الوطن والمواطنة، ولا سبيل للقضاء على الاحتكار والاستحواذ والاستئثار والاقصاء إلا من خلال الايمان الفعلي بقيمة التسامح.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 2/تشرين الثاني/2012 - 18/ذو االحجة/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م