عن العشائر والفواتح... إشاعة ثقافة التبذير في المجتمع العراقي

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: كثير حولي، لكن لا احد بجانبي، ينطبق على الكثير من التجمعات التي تحيط بالإنسان سواء في مكان العمل او الدراسة او حتى بين الأقارب في تواجدهم في مكان واحد، معروف ان الإنسان كائن اجتماعي يميل الى الصحبة والى العلاقات الاجتماعية بينه وبين الاخرين.. وتختلف طبيعة تلك العلاقات بين ثقافة وأخرى وبين مجتمع واخر.

في مجتمعنا العراقي، وهو جزء من المجتمعات العربية الأخرى، رغم اوجه التمايز والاختلاف الا انها جميعا تمتاز بهذه النزعة العشائرية والقبلية التي تقوى وتضعف تبعا لقوة وضعف القوانين والتشريعات المدنية في كل مجتمع من تلك المجتمعات. الموت زائر غير محبب في مجتمعاتنا رغم كثرة التنظيرات التي تحتفي به استشهادا في سبيل قضية معينة، او نتيجة عمل من اعمال العنف السائدة في المجتمع العراقي، يتداعى اقارب الميت الى ذويه للقيام بما يعتقدون انه واجب لا يحتمل الغياب عنه رغم جميع المشاكل التي قد تكون موجودة بينهم، وهم في تداعيهم للحضور يميلون الى تفسير المواساة والتعزية في غير المضامين التي وجدت لأجلها.

معلوم ان المواساة لا تستدعي حضورا غفيرا او صخبا وضجيجا، بل هي عبارة عن تواجد من هو مقرب الى ذوي الميت والذي يستشعرون بالإنس تجاهه حتى قبل ما لحق بهم. ومعروف ان كثرة الحضور لا توفر تلك المواساة بل هي تضيف عبئا على الأعباء الموجودة على ذوي الميت هم في غنى عنها.

من يموت لديه احد من افراد عائلته يبدأ بالقلق والتفكير بتكاليف العزاء الواجب، وهي تكاليف مستحدثة اجتماعيا لا علاقة لها بالدين والتشريع من قريب او بعيد، لست من المواظبين على حضور الفواتح خاصة اذا اقيمت في الخيم او ما يعرف بالجوادر، لكثرة الأمور المؤلمة التي اشاهدها في تلك الفواتح على قلة حضوري اليها.

قبل ان يعود من ذهب مع الجنازة الى المقبرة يطالبون من يكون المشرف على الانفاق بالذهاب الى مطعم ممتاز، لا يطلبون اصنافا بسيطة بل اغلى الاصناف التي يقدمها المطعم، لا حرمة للقران المقروء في تلك الفواتح، فالأحاديث الجانبية تستأثر باهتمام الحاضرين على حساب الانصات لقاريء القران، ومعظم الاحاديث لا تبتعد عن النميمة واكل لحوم الناس بالباطل، لا يطرح الحدث، الموت برهبته وقوة حضوره عبرة للحاضرين، انهم يتشبثون بكل ما هو دنيوي ومادي، وكأنه لا يمكن ان يكون اي واحد منهم موضع الحدث في مستقبل الايام، مجالس الفاتحة العراقية يجب ان يكون الانفاق فيها دون حدود معينة، فالجميع سيتكلم بالسوء عن تلك الفاتحة، وهو كلام لا يخضع لمتطلبات المنطق السليم بل هو ما تتطلبه مجالس القيل والقال.

تعود الاواني ممتلئة بالطعام مثلما ذهبت الى الموائد، الا اللهم من قطع اللحم والتي تجد رواجا لها في بطون الحاضرين، ما يعود من انواع الطعام الاخرى يعرف طريقه الى اكياس القمامة، وكله في ثواب الميت، لكن ذوي الميت في حالات الفواتح العراقية تلحقهم لعنة السماء على ذلك التبذير وكثير من الفقراء يتحسرون على قسم من ذلك الطعام.

في العام 1991 وبعد الانتفاضة الشعبانية وسقوط 14 محافظة عراقية من الوسط والجنوب، اكتشف صدام حسين عدم فائدة الكوادر البعثية في السيطرة على الجماهير، وكانت احد الافكار المطروحة وقتها هو حل حزب البعث، لم يعمل بتلك الفكرة وقتها، بل تم الاستعاضة عنها باعطاء دور اكبر للعشائر العراقية، خاصة بعد ضعف النظام لتكون هي الناظم لامور المجتمع حسب انتماءاته العشائرية.

وفعلا بدأت تلك العشائر باخذ مكانتها والصعود الى سلم الترتيب الاجتماعي وظهر وقتها ما اطلق عليه شيوخ الانابيب، الذين كانوا يؤدون وظائف اخرى غير الوظائف المتعارف عليها من التنظيم العشائري تقربا وزلفى الى النظام، كانت الارضية مهيأة لترسيخ الحضور العشائري في العراق بعد العام 2003 والاعوام التي تلته، فالحدث النيساني حمل الكثير من التغيير في بنى ومرتكزات المجتمع العراقي، واصبحت العشيرة فوق القانون في الكثير من الممارسات والسلوكيات الاجتماعية، وغابت الثقافة المدنية بما تمثله من تطور في كل مجتمع وحلت ثقافة العشيرة القائمة على الفصل العشائري وعلى الديات وعلى الثأر وغيرها، حتى اصبح هذا الحضور مخيفا ومرعبا في الكثير من المناطق، وحتى بغداد العاصمة نفسها، كل فراغ يملؤه الهواء، تلك قاعدة بديهية، وكل فراغ في المجتمع تملؤه العشيرة، وتلك اصبحت بديهية عراقية.

يشبّه احد الاصدقاء العشائر بالخلية السرطانية التي تدخل الى اي مجتمع ثم تتمكن منه، من عاداته وقيمه وثقافته وسلوكه، وهو سرطان يتقشى في الجسم جميعه، وهو ما نلاحظه الان من كثرة الامراض والاسقام التي لحقت بالنسيج الاجتماعي العراقي.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 31/تشرين الأول/2012 - 15/ذو االحجة/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م