ثقافة الصورة... لحظة توقف الزمن بين الماضي والحاضر

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: كثيرا ما تجدهم على مقربة من الأضرحة والمزارات، او قريبا من التجمعات البشرية في الأماكن العامة موسم الأعياد والمناسبات الأخرى، أنهم المصورون الذين يحملون كاميراتهم وينادون على المارة من اجل التقاط صورة في مكان الزيارة، انهم ليسوا كمصوري الأمس الذي عرفناهم في طفولتنا وشبابنا قبل تطور الات التصوير الفوتوغرافي، والذين كانوا بمعظمهم رجالا كبار في السن، ولديهم خبرة طويلة في مجال عملهم، وتجد لديهم هذا الشغف والمتعة في التقاط الصورة واختيار الزاوية المناسبة وعمل الرتوش وغيرها من فنون التصوير الأخرى.

الحال مع المصورين الجدد اختلف كثيرا عما كان عليه، مثلما لحق الاختلاف بالكثير من امور حياتنا، انهم اكثرهم من الشباب الذين لا يملكون الشغف القديم للمصور الذي عاصرناه تلك السنوات، ولا لديهم هاجس الفن في التقاط الصورة، ربما ما جعلهم على هذه الشاكلة هو الكاميرات الرقمية التي يحملونها بين أيديهم.

اخر صورة لي كانت قبل ايام قليلة التقطها احد المصورين الشباب بآلة تصوير رقمية كبيرة جدا، طلبت منه عدم إظهار الشعرات النابتة في لحيتي غير الحليقة من يومين، لم تكن الصورة بعد الطبع مثلما اردتها، فاللمعان فيها كان كبيرا، ووجهي اشد شقرة من شعري، الصورة لا تشبهني او انني لا اشبه صورتي، هكذا قلت لنفسي وانا اعود بالذاكرة لمئات الصور القديمة التي التقطتها عبر سنوات عمري.

كانت في الأستوديو الذي التقطت فيه الصورة الأخيرة حتى الان، عددا من صور الشباب بملابسهم الغريبة وتسريحات شعورهم الاغرب. كانت احدى الصور لشاب في العشرينات من عمره يرتدي زي احد صنوف الجيش العراقي الجديد، كانت صورة لافتة، ما لفت نظري اكثر هو ارتداء اصحاب جميع الصور للنظارات الشمسية دون دواع لذلك، فالصور جميعها في الاستوديو، مع تلك النظرة النرجسية، او التي تقول انا هنا موجود.

لا اعرف ما الذي دعا ذلك الشاب لالتقاط الصورة في الزي العسكري؟، هل هو حنين لتلك البدلة التي تذكر بعلاقات القوة والقمع والسلطة المستبدة التي كنا نشاهدها سابقا عبر الخاكي والزيتوني ايام النظام السابق؟، او هي تعبير عن رغبة في امتلاك تلك القوة الجديدة وما تحيل اليه بعد العام 2003 وزي الجندي الامريكي وعدة قتاله الكاملة؟، ربما هي مزيج من الاثنين، او ربما هي بحث عن رجولة مبكرة تسعى اليها خطوات هذا الشاب وهي رجولة سادية مريضة نرجسية.

يقول جاستون باشلار: الموت أولا وقبل كل شيء صورة، وسيبقى كذلك، وتجمع كل الدراسات على ارتباط ولادة الصورة تاريخيا بالموت، حيث كانت العلاقة التي تربط الصورة بالموت في جل مراحلها مقاومة لخوف تطور وتدرج من خوف مجهول إلى خوف معلوم، خوف من الطبيعة إلى تقديس الصورة وعبادتها .

ويمكن أن نجد كمفاهيم:الIMAGO : وهي القناع الشمعي الذي يوضع على وجوه الموتى من طرف القاضي ليحتفظ به في صناديق الفناء فوق الرف بعيدا عن العيون.

الإنسان. كما يعتقد الدكتور الحسين حريش كثيرا ما يأخذ الصور الفوتوغرافية لنفسه وللآخرين، ولكل شيء يعرف أنه مهدد بالانقراض، من نباتات وحيوانات بحرية وبوادي وأحياء عتيقة، وثروات أعماق البحار، وهذه الرغبة التي تدفع إنسان اليوم إلى أخذ العديد من الصور الفوتوغرافية هي التي جعلت الإنسان القديم يصنع أشياء جميلة من قرون وعظام  وجلد لإنسان عزيز رغبة في الاحتفاظ بذكراه،  (فالموت هو السر الأول وراء نمو فكر الإنسان من المرئي إلى اللامرئي ومن العابر إلى الخالد ومن الإنساني إلى الإلهي).

كما يرى ريجيس دوبريه في كتابه الشهير (حياة الصورة وموتها) إن الموت يتحكم في كل شيء، فطالما هناك موت فإن هناك صورة، لأن الموت هو الذي ساهم بشكل أو بآخر في صنع الصورة وتطويرها. فعوض أن  يقدم الإنسان البدائي قربانا من لحم و دم أي بشرا مثله  فإنه يمكن أن يقدم للآلهة  تمثالا من طين. وبدل أن يقدم ثورا حقيقيا فإنه أن يمكن أن يكتفي بتقديمه من خزف. وهكذا يكون قد أدى نفس المهمة. وأغلب ما يمكن أن نلاحظ هنا هو أن الصورة استطاعت أن تربط بين مفهومي الموت والحياة اللذين كانا دائما متعارضين.

لقد انطلقت الصورة  البدائية من وراء القبور، وهذا شكل آخر من أشكال ارتباطها بالموت، حيث أن الإنسان استخدم جثة الميت لصنع الصورة، واستخدمها بمثابة المادة الخام لصناعة الصنم كتجسيد لشخص الميت.

لقد سيطرت فكرة خلق الصورة - من أجل الحفاظ على الميت – على الإنسان، لذلك قام بتوظيفها كرد فعل ضد الطبيعة القاتلة التي تحول الكل إلى عدم، ولتصبح الحياة مجموعة من القوى ضد الموت والصورة وسيطة بين الأحياء والأموات ووسيلة للتغلب على الخوف من الطبيعة والقوى المجهولة ( فعين مرسومة تحمي من العين الشريرة)، وتمثال صغير يصلح كبديل عن الإنسان في الطقوس التكفيرية، ولعل هذه الوظيفة البارزة التي لعبتها الصورة، والمتمثلة في الربط بين أشياء متعارضة كالموت والحياة مثلا، هي ما دفع باحثا كريجيس دوبريه إلى الربط بين تاريخ النظر وتاريخ الموت عند الغرب ومن ثم عند الإنسانية كلها، وجعل الأول جزءا من الثاني وملحقا به،  فالمصري القديم اعتقد أن الميت يسافر مع الشمس وبما أن الأمر كذلك فإن طريقة بناء تابوت حجري تفرض عليه شكلا هندسيا يجعل لهذا التابوت بابا مفتوحا، حتى يتسنى للأحياء الاتصال بالأموات.

الصورة بهذه الرمزية الحافلة بالدلالات، لا يعيها أكثرنا، بل هي عادة ما تكون رغبة عارمة للقبض على لحظة بعد قليل ستكون زائلة، فلم لا نمسك بها قبل رحيلها ثم نعود اليها في لحظات مستقبلية اخرى؟، انه نوع من ذلك الحنين الطاغي نحو تلك اللحظات التي تجسدها صورنا في البومات ستكون عتيقة بعد سنوات، ربما نفقد الكثير منها ونضيف اخرى عليها، الا ان الاحساس نفسه يبقى رغم اننا احيانا نكره صورا او نحب اخرى بعينها، لكننا رغم ذلك نجد صعوبة في التخلص منها واذا فعلنا نشعر بندم كبير على ذلك.

هل راودت وزير الكهرباء العراقي هذه الافكار وهو يضع صورا له في اصدار عن انشطة الوزارة التي يديرها واحتلت مساحة اكثر من مساحة المواد الاخرى؟ ام انه كان يستلهم معاني ودلالات اخرى يعيها القاريء اللبيب؟.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 25/تشرين الأول/2012 - 9/ذو االحجة/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م