شبكة النبأ: لابد أن كرر الاشارة الى
أننا لا نعني بالدولة المدنية، التناقض مع تعاليم الاسلام الانسانية
والابتعاد عنها، إنما المقصود بذلك بناء الدولة المدنية التي يدفعها
الدين الى امام ويجعل منها دولة مدنية تحترم حقوق الانسان، كما أكدت
على ذلك التعاليم والافكار الاسلامية، ومنها على سبيل المثال، الآية
الكريمة التي لا تقبل التأويل إلا لصالح حرية الاختيار والرأي بما لا
يضر بالآخرين (لا إكراه بالدين).
من هنا نؤكد على أن لا تجافي بين الدولة المدنية وبين الاسلام،
لأننا نرفض أن يصبح الدين وسيلة لقمع الناس او منع آرائهم او مصادرة
حرياتهم، بل التعاليم الاسلامية ينبغي أن تكون مسارا لبناء الانسان
ودولته المدنية التي تحمي حقوقه كاملة مقابل الواجبات المطلوبة منه،
بالتساوي مع جميع المواطنين في الدولة الواحدة.
العلم وبناء الدولة
من الامور التي لا يختلف عليها الجميع، أن دور العلم في بناء الدولة
المدنية، يتصدر المقومات كافة، لما له من دور اساسي في تأسيس وبناء
الدولة والانسان في وقت واحد، ولذلك عندما يتم احترام العلماء في دولة
ما، ستجد أن التقدم حاصل لديهم لا محالة، لان النتيجة الطبيعية لمسار
العالم هو التقدم.
يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي
(رحمه الله)، بكتابه الثمين الموسوم بـ (طريق التقدم)، في هذا المجال:
(إن العلم في مقدمة العوامل التي تسبب تقدم الفرد، وبالتالي: تقدم
المجتمع، ومتى ما تواجد العلماء في مجتمع، وألتف ذلك المجتمع حول
علمائه واحتفوا بهم، إلاّ وسجل ذلك المجتمع لنفسه تقدماً باهراً وزاهراً).
ولكن من بداهة القول، أن العلم المجرد لا ينفع الدولة او الشعب بشيء،
اذا بقي حبرا على ورق، بمعنى يجب أن يتحول العلم ومضامينه الى عمل مادي
ملموس، عندئذ يكون العلم قد حقق الهدف المنشود منه، لهذا يؤكد الامام
الشيرازي بهذا الخصوص على: (إن العلم والعمل توأمان لا ينفصلان، ورضيعا
لبان لا ينفك بعضهما عن البعض في تحقيق التقدم وتقومه، فإن كل فرد
وكذلك كل مجتمع يريد الرقي والتقدم، لا بدّ له من توفير هذين العاملين
معاً. وربما يقال: إن العلم بنفسه لا يتحقق ـ عادةً ـ إلاّ بالعمل
لتحصيله، ولا يتحصّل العلم إلاّ بالجد والاجتهاد، لأن أكثر المعلومات
اكتسابية).
ولكن ثمة مشكلة كبيرة تطرح نفسها على ارض الواقع، تتمثل بتلكّؤ
المسلمين وكسلهم، في تحويل العلم الى عمل، وانتهاجهم الخمول والاتكال
والتمني ايضا، الامر الذي يجعل من العلم حبر على ورق من دون فائدة
ترتجى منه، بسبب كسل المسلمين، وهو ما يحصل راهنا، على عكس ما كان
يقدمه المسلمون في المراحل المتقدمة.
يقول الامام الشيرازي في هذا الصدد، بالكتاب المذكور نفسه: (سابقاً
كانت الأمة الإسلامية مجدة في تحصيل العلوم وتربية العلماء والاحتفاء
بهم والأخذ عنهم، ولذلك تطورت الأمة حتى سبقت جميع الأمم في مختلف
مجالات الحياة فأصبح المسلمون آباء العلم الحديث. ولكن للأسف نجد في
يومنا هذا، أن كثيراً من المسلمين تخلوا عن العلم والعلماء، وهم يحبون
أن تتحقق الأمور بالأماني).
العيش في الأساطير والأحلام
عندما يتهرّب الانسان من واجباته العملية المطلوبة في هذا المجال او
ذاك، فإنه أما أن يكون كسولا، أو متكلا على غيره، ويرغب أن يحقق ما
يصبو اليه من نتائج بالتمني، وهو اسلوب حياة خطير عاشه ويعيشه كثير من
الناس، الامر الذي يؤدي بالنتيجة الى بقائهم في مربع الجهل والتخلف
والمرض.
لذا يؤكد الامام الشيرازي في هذا المجال على: (إن الاعتماد على
التمني فحسب، يورث حالة التواكل عند الإنسان والتخلي عن مسؤولياته،
فكثير من المسلمين يرون بأن الشخص الفلاني، أو الجيش، أو الحزب، أو
النظام هو المكلف بإنقاذ بلده، أي: إنه ينتظر النتائج من غيره دون عمل
ومقدمات من نفسه، وهذا خطأ فادح).
إن هذا الاسلوب في مسايرة الحياة والعيش في ظل الاساطير والاحلام
والتمنيات، لن يؤدي الى بناء الفرد او المجتمع او الدولة المتكاملة
والقوية، لأن التهرّب من المسؤولية، وإلقائها على الاخرين، والعيش في
ظل التمني، تكون نتائجه مؤسفة ولا تتيح للانسان حياة كريمة تليق
بإنسانيته، لذا لابد أن يتخذ المسلمون عن العمل والجد والمثابرة طريقا
لتحقيق اهدافهم.
يقول الامام الشيرازي بكتابه نفسه حول هذا الموضوع: (إن ابتعاد
المسلمين عن العمل وإلقاء المسؤولية على الآخرين نوع من العيش في عالم
الأساطير والأحلام، ففي الحديث الشريف: كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته).
ويضيف سماحة الامام الشيرازي في هذا الخصوص: (كما أن عالم الأساطير
والأحلام لا يتمخّض عن نتيجة، فكذلك الاتكال على الأمنيات والآمال فإنه
لا يمكن فيها الحصول على نتيجة واقعية في آخر الأمر).
تقهقر الأمم وسقوطها
يحكي لنا التأريخ عن اندثار أمم وسقوط حضارات، والاسباب معروفة،
فالجهل واهمال العلم والعلماء، وانعدام الثقافة او قلتها، تتقدم جميع
الاسباب التي تسقط الامم والحضارات، لان العلم يبني فردا متطورا واعيا،
والاخير هو أساس بناء المجتمع الواعي المتطور، واذا انبنى المجتمع
المتطور يمكن بناء الدولة المتطورة، أما العكس فهو دمار مؤكد للفرد
والمجتمع والدولة معا.
بخصوص الاسباب التي تقتل الحضارات، يقول الامام الشيرازي بكتابه
المذكور نفسه: (إن الجهل وعدم الوعي، وفقد العلم والعلماء، وقلة ثقافة
الحياة، من أهم أسباب تأخر الفرد والمجتمع، ويؤدي إلى تقهقر الأمم
وسقوطها، بل إلى موتها وفنائها).
ولذلك سوف يتحمل الانسان (الفرد والمجتمع) نتائج ما سيقوم به من
اعمال، ومن البديهي ان تكون بصالحه اذا اقترنت بالعلم والعمل، والعكس
صحيح، لذلك يقول الامام الشيرازي: (إذا عمل الإنسان سوءً ـ بالمعنى
الأعم الشامل للكسل أيضاً ـ فسيُجزى به، ويتأخر في الحياة، وتنصب عليه
المشاكل والويلات).
وقد يتساءل احدهم لماذا الكسل والعجز ونحن امة بنت دولة عظيمة في
التاريخ الانساني؟ سيكون الجواب، إن المسلمين الاوائل كانوا يحولون
العلم الى عمل ولم يهملوا العلم ولا العلماء، كما أنهم ذوي عزيمة
وارادة قوية وراكزة، تبتعد بهم كليا عن التمني والاتكال والكسل، فهناك
تنظيم يجعل من حياتهم واضحة لا ازدواج فيها ولا عشوائية، لهذا يذكرنا
الامام الشيرازي في كتابه المذكور نفسه، بقول الامام علي ابن ابي طالب
-عليه السلام- الذي يرد في كتاب غرر الحكم: (إن الأشياء لما ازدوجت
ازدوج الكسل والعجز، فنتج بينهما الفقر). |