قبل الولج الى اصل المادة لابد من التنويه اني استعملت مفردة
التسويغ بدلا عن التبرير لأني وجدت ان اهل اللغة ينكرون عليها مطابقة
المعنى الذي اريد وإنما الاكثر انطباقاً هي مفردة التسويغ التي اعني
بها ما يسوغه البعض بمعنى التبرير السائد لفظاً عند البعض، فمنذ ان
ظهرت الحاجة الى من يقضي بين الناس لفض الخصومات ظهرت معها فكرة عدم
رضا بعضهم عن الاحكام التي تصدر، وذلك بحكم الطبيعة البشرية التي جبلوا
عليها في حب المال وفي مصداق ذلك الآية 20 من سورة الفجر (وَتُحِبُّونَ
الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) وتطبعوا على المجادلة لان بعض البشر لم يستحِ
من مجادلة خالقه على وفق ما ورد في التنزيل العزيز ومنها الآية 13 من
سورة الرعد (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ
خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ
يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ).
وفي زماننا هذا لم تتبدل الانفس ولا الرؤى والخصال بل في بعض
الاحيان تعدى الامر من عدم الرضا الى الاعتداء والتهجم والسب، وفي
العراق مثل غيره من البلدان تجد من يعتدِ على الاحكام ومنهم من يفتي
بخطأ الحكم دون ان يكون ملما بالمعرفة القانونية ومتحصلا على الفنون
القضائية ويطرح اراءً هو من يزعم بصحتها وكانت محلا للمنازعة المقضي
فيها حكماً بقرارٍ قضائي سواء كان من القضاء الاعتيادي او الاداري وحتى
الدستوري، وهذا البعض يسوق لنا الحجج على ان فعله وفعل من يواليه هو
الصحيح وسواه الخطأ ومع حقه في التعبير عن الرأي والتعليق الا اننا
للابد ان نغير بين قوله والحكم القضائي فان قوله تسويغاً لفعله او فعل
من يواليه، بينما الحكم القضائي هو توضيح لحكم القانون في المنازعة محل
الاختصام والفرق واضح وساطع فالتسويغ هو تزيين الفعل وإلصاق الوصف
المقبول اجتماعيا بفعل جاء خطأً ومخالفا للقوانين والشرائع السائدة.
اما الحكم القضائي فهو يوضح حكم القانون بالاستنباط الذي هو مناط
الاجتهاد القضائي وفي اللغة تجد الفرق اكثر سطوعا ووضوحا حيث يرى اهل
اللغة ان التسويغ مصدره الفعل ساغ ويسوغ ومعناه (سوَّغَ الأمرَ أباحَه،
جوَّزه، ابتدع له أسبابًا مرضية ؛ لكنّها غير صحيحة) اما الاستنباط
ومصدره الفعل نبط معناه (نَبَطَ الشيءُ نَبَطَ نَبْطًا، ونُبُوطًا :
ظَهَرَ بعد خفائه) وعند اهل الاصطلاح اذا استنبَطَ الفَقِيهُ فانه
استخرج الفقه الباطن باجتهاده وفهمِه لذلك فان ما يدلي به اهل السياسة
وغيرهم لا يعدوا عن كونه تسويغاً لأفعالٍ يظنون هم بصحتها، بينما الحكم
القضائي هو مَن يوضح حكم القانون فيها بالاستنباط واستجلاء النص تجاه
الواقعة محل النزاع، ويبقى الحكم القضائي ذو حجية وثبات عند التنفيذ
وهو المعول عليه في قياس المشروعية دون سواه ويبقى التسويغ وسيلة
لإعلان الاماني تجاه افعال زعموا انها صحيحة ويعلل هؤلاء الساسة النفس
بالأماني يرقبونها سعيا لفسحة من الامل و إن كانت امور البلاد أن
لاتقاد بالأماني وإنما بالفعل الناجز.
|