إن الاستقراء الخارجي يدلنا على عدّة آليات لممارسة السلطة قامت
عليها أنظمة الحكم في مختلف دول العالم، وهي قد تتفق مع موازين الإسلام
في الأصل وإن كان للشرع في تفاصيلها وجزئياتها رأي توسعةً أو تضييقاً،
كما أن هناك آليات أخرى انفرد بها النظام الإسلامي على ما يستفاد من
مجمل أدلته اللفظية واللبية يمكن جعلها فيما نحن فيه قواعد أساسية
لممارسة السلطة، ومن أهمها ثلاث:
1- الأحزاب السياسية.
2- القوى الاجتماعية.
3- الأمور الحسبية.
ولا يخفى أن ممارسة السلطة بواسطة هذه الآليات يمكن أن ينظر إليها
من جهة القمة، أي الحكومة تارة، وتارة من جهة القاعدة، أي الشعب
بشرائحه وأصنافه، لكونه مسلّطاً على نفسه واختياراته، فيحق له اتخاذ
الآليات التي بها يمارس تلك السلطات. وتفصيل الكلام فيها يأتيك في
الفصول الآتية .
الفصل الأول: في الأحزاب والانظمة الحزبية
ويمكن البحث فيه تارة من جهة الكبرى، أي وجوب النظم والتنظيم ولو في
الجملة؛ للملازمة بين الحزب والتنظيم، اوالمطابقة، وتارة من جهة الصغرى،
أي في الصيغة الخاصة للتنظيم التي قامت عليها أنظمة الحكم في عدة من
دول العالم، كونه الأسلوب الأفضل لممارسة السلطة المتقابلة، أي سلطة
الشعب وسلطة الدولة.
أما البحث الكبروي فالظاهر أنه من القضايا التي قياساتها معها؛ لعدم
الخلاف في ضرورة التنظيم ووجوبه، فنحن في غنى عن إثبات الأدلة المفصلة
على وجوبه؛ وذلك لكونه سنّة من سنن الكون كما يشهد به الوجدان؛ بداهة
أنّ الكون بما له من أجزاء وعناصر قائم على النظم والنظام. قال تعالى:
{ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت}[1] وقال عز وجل: {وانبتنا فيها من كل
شيء موزون}[2] وقال تعالى: {انّا كل شيء خلقناه بقدر}[3].
فما من شيء في الوجود إلا ويخضع إلى نظم متقن في اصله ووجوده، بل
وفي فعله وآثاره، ولابد للإنسان من التماشي مع هذا النظام لكي يحقق
أغراضه، ويعيش آمناً مطمئناً وسعيداً في الحياة، وإلا ارتطم بالسنن
الكونية وحطمته قوانينها.
هذا مضافاً إلى أن التنظيم ضرورة من ضرورات الحياة الإنسانية التي
تحكم بها الفطرة، وهو ما قامت عليه سيرة العقلاء المتصلة بزمان المعصوم
(عليه السلام) في مختلف شؤونها الهامة وغيرها، كما يظهر من دوائرهم
ومؤسساتهم ومصانعهم ومزارعهم ومتاجرهم ومدارسهم وجيوشهم ومعاهدهم
وغيرها من الشؤون الخاصة والعامة، فضلا عن قيام الأدلة الأربعة على
وجوبه في الجملة، خصوصا فيما يتعلق بالأعمال التي يتوقف عليها حفظ
النفوس والأعراض والأموال العظيمة، بل لا يبعد القول بأنه من ضرورات
العقيدة، كما قد يستظهر ذلك من أدلة وجوب نصب الإمام والخليفة كما فصل
في علم الكلام،[4] فضلاً عما عرفته مما تقدم من مباحث ضرورة وجود
الحكومة والدولة والحاكم وغيرها من الأدلة العقلية والنقلية، ولعلّ من
هنا جاء الأمر بالتنظيم أو التوصية به في وصايا الأنبياء والأولياء
(عليهم السلام) كما عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته
لأولاده (عليهم السلام) حيث قال: «اوصيكما وجميع ولدي... بتقوى الله
ونظم أمركم»[5] وهو في مقام الإنشاء كما يعضده السياق، وكونه في مقام
الوصية لأولاده (عليه السلام) لا يخصص الوارد، وتعضده الضرورة القاضية
بأن التنظيم قوة، وقد أمر الله سبحانه وتعالى بإعدادها بقوله تعالى:
{واعدوا لهم ما استطعتم من قوة}[6] بداهة أنه إذا لم يتلاحم المجتمع في
تنظيم واسع وقوي فسيعتريهم الضعف، ويتغلب عليهم الأعداء، وهي من
الملاكات التي يستقل العقل بقبحها وحكم الشرع بحرمتها، وهذا ما قامت
عليه سيرة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ومولانا أمير المؤمنين
(عليه السلام) ، كما تضافر نقله في التواريخ، فمثلاً في حرب بدر كان
المسلمون زهاء ثلاثمائة[7] والكفار زهاء ألف،[8] وكان الكفار مدججين
بالسلاح، أما المسلمون فكانوا شبه عزل،[9] وفي قبال ذلك لم يكتف الرسول
الأعظم (صلى الله عليه وآله) بالإيمان القلبي في الحرب، وإنما أضاف إلى
ذلك التنظيم الخارجي، وقد ذكر بعض المؤرخين أن الرسول الأعظم (صلى الله
عليه وآله) جعل كل مائة من أصحابه في دائرة ظهور بعضهم إلى بعض،
ووجوههم إلى الخارج، وعندما بدأ المشركون بهجومهم على المسلمين لم
يستطيعوا من الإحاطة بهم، وتبعثروا حول هذه الحلقات الكبيرة[10].
وبمثل هذا التنظيم استطاع المسلمون أن ينتصروا على الكفار الذين لم
تكن لهم هذه القدرة التنظيمية العالية، كما أن ذلك يظهر جلياً في إرسال
رسول الله (صلى الله عليه وآله) للرسل [11] وتنصيب القضاة والولاة [12]
والمبلغين والمعلمين[13] وأئمة الجماعة والجمعة[14] ، مما يكشف عن أنه
(صلى الله عليه وآله) اتبع التنظيم في إدارة الدولة والحكم، كما أن ذلك
يظهر جلياً في كتاب مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الاشتر،
حيث قسم الناس إلى أصناف، ووضع لكل صنف أميراً وحاكماً وما أشبه
ذلك[15].
هذا ولا يخفى أن العالم المعاصر يعتمد على التنظيم في تدبير أموره
المختلفة، وقد جاء في بعض التقارير أن للصهاينة 5 ملايين منظم، وفي
تقرير آخر أن للاتحاد السوفياتي قبل التفكك بين 12 مليونا إلى 25 مليون
منظّم، كما أن للصين الشيوعية ما لا يقل عن20 مليون منظم، وللبلاد
الأوروبية مع أمريكا50 مليون منظم، سواء في التنظيمات الحزبية أو
الثقافية أو غيرها؛[16] بداهة أنه لا يمكن تدبير الأمور في مختلف شؤون
الحياة إلا بواسطة المنظمات والأفراد الذين ينتمون اليها، كما لا يمكن
العيش في هذا الجو المشحون بالتنظيمات بلا تنظيم، فضلاً عمن أراد
مواجهة هذه الجيوش من التنظيمات المختلفة بواسطة التفرق والتبعثر
والتمزق أو بالأعمال الفردية، وفي هذا الشأن قال السيد الاستاذ رضوان
الله عليه في كتابه السبيل إلى إنهاض المسلمين: لقد قلت لبعض مسلمي
لبنان أنكم ستواجهون مصيراً سيئاً إن لم تنظموا أنفسكم. قالوا: ومن أين
تقول ذلك، قلت: من منطق التاريخ، ومنطق الأحداث، قالوا: وكيف؟! قلت:
إنكم محاطون بتنظيم صليبي في داخل لبنان، وبتنظيم صهيوني في إسرائيل،
فأنتم بين تنظيمين معاديين، ومع ذلك فإنكم مبعثرون، ومن الطبيعي أن
ينتصر من له تنظيم على من لا تنظيم له، ولا يكفي أن يقول أحد إنني مع
الحق ولا يعمل شيئاً؛ لأن الحق يأمرك بالتنظيم، ويأمرك بأن تعلو ولا
يعلى عليك، يأمرك أن تأخذ بالأسباب الطبيعية لا أن تجلس وتكسل وتقول:
إنني على صراط الله، والآخرون على صراط الشيطان!! وماذا كانت النتيجة؟!
إنها المشاكل والكوارث التي شاهدها الكل بأم أعينهم.
وسواء كان السبب هو القصور أو التقصير فإن النتيجة حصلت كما في سائر
الأسباب الطبيعية، فإن من لم يشرب الماءـ ولو لعدم وجود الماءـ لابد أن
يصيبه الضرر. إن النتيجة ليست متوقفة على العلم والجهل، أو الإمكان
وعدمه، فالدنيا دار أسباب ومسببات، والمسببات تتولد بشكل قهري من
الأسباب، سواء وجدت الأسباب بعمد أو بغير عمد، وان لنا لعبرة كبيره في
حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث إنه كان يخضع كل شؤونه
للتنظيم الدقيق[17] .
وكيف كان، فإن هذه السيرة بضميمة وجوب الاقتداء والتاسي تدل على
الوجوب، ويعضد ذلك حكم العقل من وجهين:
أحدهما: المقدمية؛ بداهة أن التنظيم مقدمة لإقامة حكومة الإسلام
وتطبيق قوانينه. قال تعالى: {أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه}[18] فإن
الأمر متعلق بإقامة الدين، والمتلقى العرفي من اقامة الدين هو العمل
لتثبيته ونشره وإيجاد كيان حر مستقل له، بحيث يشعر كل من يدخل المجتمع
الإسلامي بأن كيان الدين قائم، وفارض هيمنته وسلطته على المجتمع من
القمة إلى القاعدة، وناشر ظله وإرادته على اسس المجتمع الفكرية
ومؤسساته النظامية، وحاكم على جميع الأفراد والأعمال، ومن الواضح أن من
مقدمات إقامة الدين تكوين التنظيمات العاملة لأجله.
ثانيها: الدفاع والمقابلة بالمثل ، فإن الأعداء يقابلون المسلمين
بالتنظيمات المفسدة والمضللة، فيجب مقابلتهم بالتنظيمات الاصلاحية من
باب الدفاع. قال تعالى: { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى
عليكم}[19] ويمكن ذلك بتنظيم المسلمين أولاً لجمع القوة والقدرة ثم
تنظيم غيرهم دفاعاً، وهذا ما اختاره بعض الفقهاء منهم السيد الشيرازي
(قدس سره) في كتابه السبيل إلى إنهاض المسلمين، حيث قال: والواقع أن
هذا العمل - تنظيم غير المسلمين- هو واجب شرعي أولاً، ووسيلة لمواجهة
التحديات الحضارية التي تعيشها أمتنا ثانياً.
لقد مارس الغربيون والشرقيون مثل هذا العمل بالنسبة إلى المسلمين
بالأمس، وهم يمارسون مثل هذا العمل اليوم، فمن الشاهد أنهم ينظمون
قسماً من شبابنا لكي يكونوا عملاء لهم، إنهم يجندون شبابنا في سبيل
الكبت، فلماذا لا نجنّد شبابهم في سبيل التحرر والإصلاح؟ ولا نقصد
تحرير بلادنا فحسب، بل بلادهم أيضاً، فإن الحرية الحقيقية إنما هي في
الإسلام. قال تعالى: {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم}[20]
هذا وقد أيد (قدس سره) ذلك بنموذجين:
الأول: ما جرى في إيران. قال (قدس سره): قبل أن يحتل البريطانيون
إيران أرسلوا مجموعة من عملائهم إلى داخل إيران، وخصوصاً إلى العشائر
المحيطة بالحدود، وقد أظهر هؤلاء العملاء الإسلام- كذباً ونفاقاً-
كستار لأعمالهم الشيطانية، واخذوا يضللون قسماً من الشباب السذج حتى
انخرطوا في التنظيم الغربي البريطاني، وأصبح هؤلاء الشباب فيما بعد
ركائز الاستعمار البريطاني في إيران. وقد تزوج أحد هؤلاء العملاء إحدى
فتيات العشائر بعد أن أظهر الإسلام، وبعد أن استطاع أن يضلل مجموعة من
الشباب ويخرطهم في التنظيم البريطاني وجد أن مهمته قد انتهت، فباع
زوجته لقروي مقابل شراء حمار، وركب الحمار واتجه نحو بوشهر حيث باع
حماره هناك، وركب السفينة وأبحر إلى لندن.. هكذا عمل المستعمرون في
إيران.
والثاني: ما جرى في تركيا، فإنه حينما أراد المستعمرون سحبها إلى
الإلحاد الكامل... وإزالة حتى المظهر الإسلامي منها ومن اجل تحقيق هذا
الهدف بعثوا بمجموعة من عملائهم إلى تركيا من أجل إفساد الشباب وتخريب
البلاد، وفي هذا الإطار ينقل أحد اليهود وكان في مهمة استعمارية في
أنقرة الحادثة التالية، فيقول: بعد أن انتهت مهمتي ونظمت العدد المطلوب
من الشباب صممت على الا أخرج من البلاد إلا بعد إفسادها، فتعاونت مع
شاب تركي كان في تنظيمنا حتى تمكنا من تفجير البنك العثماني الذي كان
في أنقرة، مما أحدث في العالم أثراً طيباً حسب تعبيره.
هكذا ضلل المستعمرون شبابنا، ولا زالوا يضللون، فالواجب علينا أن
نقابل بالمثل وان نرد الحجر من حيث جاء بفارق واحد هوانهم يعملون في
سبيل الهدم، ونحن نعمل في سبيل البناء، هم يعملون في سبيل الاستعباد،
ونحن نعمل في سبيل التحرير، هم يعملون في سبيل الهوى والشيطان، ونحن
نعمل في سبيل الله والإنسان[21]. هذا من ناحية الكبرى.
وأما من ناحية الصغرى فإن الاستقراء لآليات ممارسة السلطة في مختلف
دول العالم وخصوصاً المتقدم منها يوصلنا إلى أن الأحزاب السياسية
المتمسكة بالموازين الصحيحة هي الأسلوب الأفضل الذي اتفق عليه عقلاء
العالم للجمع بين السلطتين، ويحقق مصالح الشعب في سلطته والحكومة في
أهدافها وطموحاتها، وقد عرفت مما تقدم أن الأحزاب من الموضوعات
المستنبطة التي يرجع في تحديدها إلى أهل الخبرة؛ إذ لا دليل يدل على
حرمتها أو وجوبها إلا ما عرفت من عموميات الأدلة وإطلاقاتها الدالة على
أصل التنظيم والاجتماع.
* فصل من كتاب فقه الدولة
وهو بحث مقارن في الدولة ونظام الحكم على ضوء
الكتاب والسنة والأنظمة الوضعية
** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء
المقدسة
*** للاطلاع على فصول الكتاب الاخرى
http://www.annabaa.org/news/maqalat/writeres/fadelalsafar.htm
................................................
[1] ـ سورة الملك : الآية 3 .
[2] سورة الحجر: الآية 19 .
[3] سورة القمر: الآية 49 .
[4] انظر كشف المراد: ص388 -400 .
[5] نهج البلاغة: ص421 الوصية 47 ؛ البحار : ج42
ص256 ح78 .
[6] سورة الانفال: الآية 60 .
[7] مناقب آل ابي طالب: ج1 ص187 ؛ السيرة النبوية
لابن هشام : ج2 ص706 .
[8] الطبقات الكبرى: ج2 ص15.
[9] انظر المغازي: ج1 ص26 ؛ السيرة النبوية لابن
هشام: ج2 ص666 ؛ الطبقات الكبرى: ج1 ص17-20 .
[10] السبيل الى انهاض المسلمين: ص47 ؛ وانظر تاريخ
الطبري: ج2 ص446-449 .
[11] انظر تاريخ الطبري: ج2 ص644-657 .
[12] السيرة النبوية لابن هشام : ج2 ص612 وج4 ص246 .
[13] السيرة النبوية لابن هشام : ج2 ص434 .
[14] المصدر نفسه: ص435 ؛ تاريخ الطبري: ج2 ص395.
[15] نهج البلاغة: ص426-445 الكتاب 53 ؛ الوسائل :
ج27 ص223 -224 ح33648 باب8 من ابواب اداب القضاء .
[16] السبيل الى انهاض المسلمين: ص46 .
[17] السبيل الى انهاض المسلمين: ص46 – 47 .
[18] سورة الشورى : الآية 13 .
[19] سورة البقرة: الآية 194 .
[20] سورة الاعراف: الآية 157 .
[21] السبيل الى انهاض المسلمين: ص49-50 . |