سياسة الرحمة في دولة العدالة

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

 

شبكة النبأ: دولة العدالة مفهوم واضح، لا يحتاج الى كثير من العناء كي يفهمه السياسيون، أو غيرهم، إنه يعني الدولة التي تتعامل مع الجميع وفقا للقانون والكفاءة، مع حضور الهامش الانساني الذي لا مناص منه، إذا ما أرادت الحكومة أو بتعبير أدقّ، الدولة ومؤسساتها، أن تبني مجتمعا متماسكا وميّالا للتطور والرقيّ، لذا في دولة العدالة، لا يوجد غبن من أي نوع كان، والسبب عدالة القانون التي تضبط حركة المجتمع، وقوة الدستور التي تضبط حركة الدولة.

تطمح الامم والشعوب المتأخرة، بدولة عدالة، تصون حرية الانسان وكرامته، وتبث روح التعامل الانساني، بين الافراد والجماعات، وذلك من خلال ترسيخ حزمة من السياسات المتناغمة التي تكفل الانسجام بين الحقوق والواجبات، وتلزم القائمين على ادارة الدولة ومؤسساتها في السلطات الثلاث المنفصلة، تلزمهم بمنظومة اجرائية واضحة ودقيقة، تحدد من طغيان الذات واهواء النفس، من خلال التطبيق الفوري الرادع للزلل الحاصل هنا او هناك.

نموذج أعظم للرحمة

من ضمن المزايا التي تنطوي عليها دولة العدالة، هي سياسة الرحمة التي تتخذها كمنهج راسخ في تعاملها مع الجميع، اي لا فرق بين فلان او فلان، ولا فرق بين من هو داخل الدولة او خارجها، فالرحمة شعار ومنهج تلتزم به دولة العدالة، لتحقيق الشرط الانساني الذي يكفل للجميع حياة لا فوارق فيها، إلا بقدر ما يتعلق الامر بالكفاءة والمهارة والسعي، على أن تتوافر الفرص للجميع دون حواجز أو معيقات من اي نوع كان.

في سياسة الرحمة لدينا النموذج الأعظم، النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، حين قاد الدولة الاسلامية كأقوى دولة في وقتها، من بين عموم دول العالم آنذاك، ولم تغب سياسة الرحمة عن عقلية القادة ولا عن سلوكهم الانساني الرفيع.

يقول سماحة المرجع الديني، آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (السياسة من واقع الاسلام): (لقد ضرب النبي صلی الله عليه و آله الرقم الأول في التاريخ كله في الرحمة بما لا مثيل لها في تاريخ أي عظيم وقائد).

وقد انتهج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، سياسة التواضع كمنهج انساني دائم، وكانت الاخلاق والسمو ومراعاة الناس، في الكلام والتعامل، سبيلا الى بناء الدولة الاسلامية، ويذكر لنا سماحة المرجع الشيرازي في كتابه حول سياسة الرحمة في دولة العدالة الاسلامية إذ يقول سماحته: (وفد أعرابي على رسول الله صلی الله عليه و آله يطلب منه شيئاً، فأعطاه النبي صلی الله عليه و آله وقال له: أحسنت إليك؟ قال الأعرابي: لا، ولا أجملت. وذلك في مجلس النبي صلی الله عليه و آله وبمحضر من أصحابه المهاجرين والأنصار، فغضب المسلمون، وشق عليهم تحمل هذه القسوة من الأعرابي، فقام إليه بعض الصحابة ليوبخه ويؤنبه. فأشار النبي صلی الله عليه و آله إليهم: أن كفّوا. ثم قام صلی الله عليه و آله ودخل منزله وأرسل إليه وزاده، ثم قال صلی الله عليه و آله لـه: أأحسنت إليك؟ قال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، فودّع الأعرابي وخرج.ثم توجه النبي صلی الله عليه و آله إلى أصحابه قائلاً: «مثلي ومثل هذا، مثل رجل لـه ناقة شردت عليه، فأتبعها الناس، فلم يزدها إلا نفوراً، فناداهم صاحبها: خلوا بينـي وبين ناقتـي فإني أرفق بها منكم وأعلم. فتوجه إليها ووقف بين يديها، فأخذ لها من قمام الأرض، فردها حتى جاءت واستناخت، وشدّ عليها رحلها واستوى عليها. وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار»).

الرحمة تشمل كل شيء

وتم بناء الدولة الاسلامية القوية العادلة، بمثل هذه الاخلاق العظيمة والسلوك الانساني الرحيم، ولم تقتصر الرحمة على تخفيف العقوبة او العفو التام عن المذنب، بل يتعدى الامر الى التخفيف عن كاهل الناس في كل شيء، بمعنى أن قائد الدولة الاسلامية، كان يفكر بأقل الاشياء التي يمكن أن تؤدي الى إجهاد الناس، وبسبب هذه الاخلاق الصادقة وهذا السلوك الحقيقي العادل والرحيم، إلتفَّ المسلمون حول قيادته وشمخت الدولة الاسلامية العظمى التي تجاوزت جميع الدول آنذاك، لكن كانت الرحمة حاضرة في ذهن القائد حتى في أبسط الامور وأدقّها.

يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب: لقد (ذكروا: أنّ الرسول صلی الله عليه و آله كان يقصر من مواعظه خشية السآمة على أصحابه، فلا يكثر عليهم المواعظ، وإذا وعظ لم يطل فيها، بل يقلل، وفي القليل يقصر). ويضيف سماحته ايضا: (وكان صلی الله عليه و آله يلاحظ أن لا يشق على المسلمين بفعل أو بقول، وقد ورد عنه صلی الله عليه و آله في موارد عديدة: «لولا أن أشق على أمتـي…»).

ولكي يتأكد المنهج الانساني الرحيم في دولة العدالة، فإن الرحمة لا تقتصر على فرد دون غيره، ولا جماعة دون غيرها، بغض النظر عن الانتماء المناطقي أو العرقي او الديني او سواه، بل في دولة العدالة الراسخة، تشمل الرحمة كل شيء بما في ذلك الحيوانات ايضا، كما نطالع ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي بهذا الصدد: (وعمت رحمته صلی الله عليه و آله كل شيء حتى الحيوانات، فكان يوصي بها. وقد أثر عنه صلی الله عليه و آله الكثير في ذلك، ومنه ما يلي: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء»).

أين دولة العدالة الآن؟

عندما ندقق في المشهد السياسي الراهن للحكومات الاسلامية والمسلمين، فإننا لا ريب نفتقد لدولة العدالة التي يستحقها المواطن المسلم والانسان عموما، فبعد أن كان المسلمون معززين مكرمين في ظل دولة اسلامية نموذجية، بدأ بتأسيسها وبنائها المسلمون قبل اكثر من 1400 سنة، نلاحظ ان الرحمة والعدالة شبه مفقودة في سياسة الحكومات التي تتخذ من الاسلام دينا رسميا لدولها، ولكنها لا تعمل بتعاليمه الانسانية الواضحة.

إن هذه الازدواجية السياسية  للحكام، بين الانتماء للاسلام ورفض العمل بأخلاقياته وضوابطه، تؤكد شرخا دينيا وانسانيا واخلاقيا كبيرا في التكوين الفكري والسلوكي لأولئك الحكام، إذ يغيب المنهج الانساني في ادارة الحكم، وتغيب الرحمة التي تُسهم في تحسين حياة الناس، من حيث تحقيق الحاجات الاساسية وحتى الترفيهية لهم.

المواطن المسلم في الدول الاسلامية والعربية، لا يُعامل برحمة، ولا احترام، من لدن الحكومات، والدلائل كثيرة، أبرزها اهدار حقوقه وحرياته، فضلا عن التجاوز على المال العام الذي يعود للمواطن، فتعيش الطبقة الحاكمة وبطانتها في بحبوحة ورخاء، فيما يعيش المواطنون في عوز وحرمان وجهل مستمر.

المطلوب أن يباشر الحكام الذين يدّعون الاسلام، الى الامتثال بالسلوك النبوي الشريف في ادارة الدولة، ولابد أن تكون الرحمة عنوانا عمليا كبيرا وواضحا في دولة العدالة، أما اذا عجز الحكام عن تحقيق هذا الشرط، فإن مآلهم السقوط الحتمي، ولابد أن تتطور الشعوب المتأخرة وتحصل على حكام وحكومات تنصفها وتنشر الرحمة بين الجميع في دولة العدالة المرتقبة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 17/تشرين الأول/2012 - 2/ذو االحجة/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م