شبكة النبأ: من طبيعة المسار التكويني
للاشياء المادية أو غيرها، أنها لا تنبني إلا وفق قانون التدرّج، وأنها
لا تنشأ فجأة، بل لابد أن يكون بناؤها تصاعدي، حتى يكتمل هذا البناء
ويكتسب شرط البقاء والأفضلية ايضا، ولكن هناك من البشر من لا يراعي
قانون التراكم والتدرج، ولا يتنبّه لأهميته ولا يعمل به، فتضيع فرص
بناء كثيرة، كان من الممكن تحقيقها لو أنها خضعت لقانون او منهج
(الذرات والقطرات) وتراكمها، وقدرتها على تقديم النتائج الأكيدة فيما
يتعلق بقضية البناء الهيكلي، للاشياء المادية أو سواها.
الحياة ذرات وقطرات
المغالاة ظاهرة يمكن ملاحظتها على بعض الناس، ومنهم من يذهب الى ان
الاعمال والنتائج، إما أن تكون كبيرة جدا، أو لا فائدة منها، ولكن هذا
الرأي أو المنهج يخالف طبيعة الحياة نفسها، لأن الحياة عبارة عن (ذرات
وقطرات) تتجمع وتتراكم لتسهم في بناء الاشياء، فالعمل في أي مجال، ليس
شرطا أن يكون كبيرا وسريعا ومفاجئا، بل قضية التدرج والتراكم التصاعدي
في قضية العمل حتما تعطي نتائج ملموسة.
يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي
(رحمه الله) في كتابه القيّم، الموسوم بـ (الذرات والقطرات): (العمل
ذرةً ذرة وقطرة قطرة سلباً أو إيجاباً يؤثر في النتيجة كذلك، كما هو
ثابت في الحكمة.أمّا ما يقوله البعض من أن اللازم أن يعمل الإنسان إما
عملاً كبيراً أو يترك ـ كما أصبحت عادة كثير من الناس وحتى بعض
العاملين ـ فهو غير صحيح، فإنهم بقولهم:(أو يترك) أخّروا المسلمين كافة،
لأن الحياة ذرات وقطرات).
ولدينا في واقع الحال وفي التجارب التاريخية المأخوذة من مسيرة
الاسلام، أدلة وشواهد تؤكد أفضلية العمل بمنهج (الذرات والقطرات)،
بمعنى تراكم الذرات مع بعضها ذرة ذرة، والقطرات مع بعضها قطرة قطرة،
حتى نصل الى النتيجة المبتغاة، وهذا ما انتهجه المسلمون الاوائل وحققوا
من خلاله نجاحات كبيرة، وعندما تركوا العمل به ساءا ت أحوالهم وتأخروا
عن الركب العالمي.
لذا يقول الامام الشيرازي في هذا الجانب بكتابه نفسه: (إن المسلمين
حين تقدموا عملوا بمثل هذا العمل حسب تعليم القرآن الحكيم حتى وصلوا
إلى ما وصلوا إليه من الرُّقي والتقدم..، ثم تركوا حتى الذرات والقطرات
وتركوا .. وتركوا.. حتى انقلبت حالتهم إلى ما نشاهده اليوم من التأخر
الذي ليس بعده شيء مع ملاحظة ما لهم من إمكانيات وطاقات هائلة !فإذا
أرادوا الرجوع إلى ما كانوا عليه بل أكمل وأوسع.. عليهم أن يعملوا كما
عمل آباؤهم ولا يتركوا العمل في أيّ بعد من الحياة حتى إذا كان بقدر
الذرة والقطرة، حتى ترجع حالتهم إلى ما كانت عليه).
نتائج العمل الاعتباطي
كثير من الناس على الرغم من حساسية مناصبهم وطبيعة عملهم، لم يدركوا
حتى اللحظة ما هي خطورة منهج التدرّج والتراكم في صنع الحياة وفي عملية
البناء بصورة عامة، فهم في الغالب يهملون هذا المنهج ولا يتنبّهوا
لأهميته، لذلك تتسم أعمالهم بنوع من الاعتباطية وعدم التخطيط، وهو امر
يقود الى نتائج سيئة في الغالب، على العكس ممن يعتمد منهج (الذرات
والقطرات) ويستثمرها في عمليات البناء الفكري او المادي ايضا.
يقول الامام الشيرازي بهذا الخصوص مؤكدا على: (ان الحياة دقيقة..
دقيقة.. فهي لبنة لبنة، وذرة ذرة، وقطرة قطرة، فالعمل فيها اعتباطاً ـ
ولو بمثل هذا القدر القليل ـ ينتج النتائج السيئة).
هذا هو الخطأ الذي وقع فيه المسلمون حين أهملوا قضية تراكم الذرات
والقطرات، فأدى ذلك الى تأخرهم، وفي المقابل التزم اعداؤهم بهذا المنهج
ووظفوه لصالحهم ونجحوا، فحققوا درجات مهمة من التقدم، حتى تقدموا في
افكارهم وصناعتهم وعموم مجالات حياتهم على المسلمين، كما نقرأ ذلك في
قول الامام الشيرازي في هذا المجال: (هناك الكثير من أعداء المسلمين
أخذوا بقانون - الذرات والقطرات- فتقدموا علينا).
على سبيل المثال توظيف قضية الاتقان في الصناعات وسواها، إذ لم يعر
المسلمون ما يلزم من الجهد والتركيز لقضية الاتقان، ولم يتعلموها خطوة
خطوة، ولم يعطوها الحيز المطلوب من الوقت او المراس، في حين استفادت
امم اخرى من هذا المنهج ووظفت ميزة الاتقان لصالحها ونجحت، كما هو
الحال بالنسبة لليابان كمثال.
يقول الامام الشيرازي حول هذا الموضوع في كتابه نفسه: (إني أذكر قبل
الحرب العالمية كانت البضائع اليابانية معروفة بعدم الإتقان ولذا لم
يكن يرغب الناس فيها.أما بعد أن جعلوا في بلادهم التعددية الحزبية،
وانتهجوا منهج الإتقان في ذرة ذرة وقطرة قطرة من أمورهم حتى وصلوا
اليوم إلى ما وصلوا إليه من الجودة في مختلف بضائعهم وأصبح الإقبال
عليها والمشترون لها أكثر، وأحياناً حتى مما يصنعه الغرب. وهكذا كله
بسبب الإتقان في الأمور من الذرات والقطرات إلى غير ذلك).
القليل ينتهي الى الكثير
هكذا الامر في بناء الدول، اذ يُسهم منهج (الذرات والقطرات) في
البناء السليم، مع توافر الصبر والتأني، وعدم التسرّع غير المبرر، لأن
هذا المنهج ينتهي الى النتائج المرتبقة بصورة مؤكدة، كما يؤكد ذلك
الامام الشيرزي بقوله: (نعم: القطرات تتجمع، والذرات تتراكم، والقليلات
تنتهي إلى الكثيرات بإذنه سبحانه).
وعلى الانسان أيا كان محل أو طبيعة عمله، أن يتمسك بمنهج هذا
القانون الناجح، وأن تكون نقطة ارتكازه وانطلاقه (خزينه الكبير من
الصبر)، وقدرته على المطاولة، لأن النجاح للوصول الى الهدف اكيد وغير
قابل للخطأ، طالما أن الانسان بقي طيلة الزمان متمسكا بهذا المنهج.
يقول الامام الشيرازي في كتابه المذكور نفسه حول هذا الموضوع: (إن
التكرار زماناً، وجمع الذرات والقطرات عدداً، من أسباب الوصول إلى
النتائج المطلوبة، فاللازم على الإنسان أن يهتم بالقطرات فيجمعها ولو
طال الزمان).
ومن الامثلة المبسطة على نجاح الانسان نتيجة لسعيه وصبره، ان الحجر
الكبير يصعب حمله، أما اذا تعاون عليه الآخرون فإنه سيصبح قابلا للنقل
من مكان الى آخر، هكذا يمكن للقوى والافعال والافكار أن تنجح في تحقيق
أهدافها اذا تجمعت من افراد وارادات صغيرة مبعثرة (ذرات وقطرات)، الى
قوة موحدة يمكنها فعل ما لا يستطيع أن يعمله الفرد بمفرده. لذا يضرب
لنا الامام الشيرازي مثلا يقول فيه: (إن حجراً كبيراً قد لا يتمكن زيد
أو عمرو أو بكر من حمله، أما إذا صاروا جماعة تمكنوا منه). |