إن كان الانتماء للوطنية وللمشروع الوطني يؤسِس لحالة فكرية غير
متصالحة غالبا مع أيديولوجيا الإسلام السياسي التابع لمراكز قرار
خارجية، ومع الأيديولوجيات الأممية التي تُنكر الوطنية، فإن هذا لا
يعني التعصب الأعمى لكل من رفع راية الوطنية أو ادعى تمثيلها، فالوطنية
سلوك نضالي على الأرض وليس راية تُرفع أو ملكا يُورَث.
إن من يؤمن بالوطنية الفلسطينية تاريخا وهوية وثقافة وجغرافيا
ويمارس هذا الإيمان كتابة وقولا وسلوكا لا بد وان يكون مستعدا لمواجهة
كل من قَصَر وساوم وتواطأ عليها حتى وإن كان ممن يرفعون راية الوطنية
والمشروع الوطني، وفي هذا السياق يصبح من حق حتى الجماعات ذات الأفكار
الدينية أن تقود المشروع الوطني من خلال صناديق الانتخابات إن وطنت
أيديولوجيتها الدينية وأعلنت صراحة أن فلسطين مقدمة على أية ارتباطات
إيديولوجية خارجية، كما هو الحال مثلا بالنسبة لتركيا أو إيران حيث يتم
توظيف الديني لصالح القومي.
لا اخفي أن تحفظي على التيارات الدينية يؤسَس على اعتبارات فكرية
عقلانية، ولكن الدافع الأكبر لهذا التحفظ مرده أنه من الخطورة تجاهل
أولوية الحاجة الفلسطينية لمشروع وطني تحرري يعمل من أجل تحرير فلسطين
وقيام دولة مستقلة كما هو حال كل الدول التي يتواجد فيها تيارات دينية،
فهذه الأخيرة توظف الدين لخدمة مصالحها والدولة التي ينتمون لها، ولنا
في إيران وتركيا وحتى مصر وتونس والمغرب خير شاهد على ذلك، أيضا من
الخطورة تعريض الحالة الفلسطينية للصراعات والتجاذبات التي تؤدي إلى
تقسيم المجتمع في هذا الوقت حيث الشعب الفلسطيني أحوج ما يكون للوحدة
الوطنية لمواجهة الخطر الصهيوني الذي يهدد مجمل الوجود الوطني، وعلينا
أن نحمد الله أن نجانا من الطائفية والقبلية، حيث الهوية الفلسطينية
أكثر الهويات الوطنية ترابطا وتماسكا.
إن انتقاداتنا لجماعات الإسلام السياسي في فلسطين يؤسس بالإضافة إلى
ما سبق، أن محرك ومغذي هذه الأيديولوجيات الدينية غالبا ما يكون مصادر
خارجية مما يؤدي إلى إلحاق القضية الفلسطينية بمراكز قرار خارجية حيث
تكرر حركة حماس مثلا أنها جزء أو فرع من جماعة الإخوان المسلمين، وهذا
يعني أنها تابعة وليست أصيلة، وإن حكمت الشعب الفلسطيني فمعنى هذا أن
الشعب الفلسطيني سيكون محكوما ومُقادا من جهات خارجية، وهو أمر غير
موجود عند جماعات الإسلام السياسي الأخرى، فلم نسمع إخوان مصر يقولون
إنهم تابعون لجماعة أو جهة خارجية، ولا تقول ذلك أيضا التيارات الدينية
الحاكمة في إيران وتركيا وتونس والمغرب. ولكن، إن كان من الصعب
المراهنة على جماعات الإسلام السياسي الفلسطينية في وضعها الراهن لأن
تكون حاملا للمشروع الوطني، فإن تخوفات تُثار حول قدرة منظمة التحرير
بوضعها الراهن على حماية المشروع الوطني وبالأحرى استنهاضه.
لسنوات والوطنية الفلسطينية مُقادة من طرف تنظيم حركة فتح و بقية
فصائل منظمة التحرير، صحيح أن حركة فتح وفصائل المنظمة، وطِوال أربعة
عقود، حافظوا على الوطنية الفلسطينية واستنهضوا الهوية والثقافة
الوطنية وفرضوا القضية الفلسطينية على العالم كقضية شعب يناضل من أجل
حريته واستقلاله... ولكن مع الدخول بالتسوية وتحول تنظيم فتح من حركة
تحرر وطني إلى سلطة وحكومة بما ترتب على ذلك من إبهاظ الحركة وتحميلها
كل أوزار وأخطاء التسوية والسلطة دون تقدم ملحوظ نحو الدولة
والاستقلال، ومع التغييب المتعمد والممنهج لمنظمة التحرير الفلسطينية
بمدلول كل كلمة من كلماتها، ومع استمرار أزمة اليسار الفلسطيني وعجزه
عن تشكيل حامل أو رافعة للمشروع، فإن الوطنية الفلسطينية أصبحت كاليتيم
الذي لا يجد من يتبناه أو شعارا يوظفه هذا الطرف أو ذاك دون امتلاكها
القدرة على دفع استحقاقاته.
لا غرو أن منظمة التحرير الفلسطينية تعتبر رسميا الممثل الشرعي
والوحيد للشعب الفلسطيني، ولكن ماذا تعني منظمة التحرير بالملموس على
أرض الواقع ؟ أين مؤسساتها التمثيلية من مجلس وطني واتحادات شعبية وجيش
تحرير الخ ؟ أين المنظمة مما يجري في قطاع غزة ؟ وهل ما زالت المنظمة
تمثل أهل غزة ؟ وإلى متى سيصبر الشعب على المنظمة والسلطة ويمنحهما
الفرصة تلو الأخرى فيما الوطن يضيع من بين أيدينا شبرا شبرا ؟ إلى متى
سنستمر في استعمال الممارسات الإسرائيلية وحركة حماس كمبرر وذريعة
للسكوت على حال المنظمة وفصائلها وسلطتها؟، وإذا كان استنهاض المشروع
الوطني مشروطا باستنهاض منظمة التحرير الفلسطينية، وإذا كانت حماس لا
تريد الدخول في منظمة التحرير، فلماذا لا توجد أية جهود أو محاولات
لاستنهض منظمة التحرير بدون حماس؟ ولماذا يسير وضع حركة فتح التنظيمي
من سيئ إلى أسوء ليس فقط في قطاع غزة بل وفي الضفة والشتات أيضا؟.
حال منظمة التحرير، التي ننتمي لها ونتمنى استنهاضها، لم يعد يرضي
أحدا، وللأسف إن استمر حال المنظمة على ما هو عليه فلن يتبقى منها إلا
صفتها التمثيلية الموروثة من زمن ولى، وهي صفة تُجبر الدول والمنظمات
الدولية على التعامل مع المنظمة بروتوكوليا ومجاملة ولكنها قد تضطر
لإعادة النظر بهذا التعامل، ولن يتبقى منها سوى هيئة قيادية - اللجنة
التنفيذية لمنظمة التحرير - عناصر هذه القيادة والتي من المُفترض أنهم
يمثلون قيادة الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، تجاوز الزمن غالبيتهم
منذ زمان وتحولوا لمجرد ذكريات من الماضي يرددون خطابا روتينيا إنشائيا
بما تستدعيه المناسبات، وبعضهم جاءت بهم الصدفة إلى المنظمة، ومنهم من
فشل أو فُصل من حزبه فتمت ترقيته لدرجة أعلى!.
من يُفترض أنهم قيادة منظمة التحرير وقيادة الشعب التي لا تعلوها
قيادة ويفترض ألا سيادة فوق سيادتها أصبحوا موظفين كبار في سلطة تُمول
من جهات أجنبية، إن لم تكن معادية فليست صديقة للمشروع الوطني التحرري،
وتخضع كل خطوة من خطوات هذه القيادة وكل قرار من قراراتها وكل رجل أمن
من رجالها للإرادة الإسرائيلية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ويعتاشون
من وراء ما تقدمه السلطة لهم ولأفراد عائلاتهم من رواتب ومساعدات
وتسهيلات، وهناك بند في ميزانية السلطة خاص بمنظمة التحرير.
أما القيادة الحالية لحركة فتح العمود الفقري للمنظمة وللمشروع
الوطني، فحالها ليس أفضل من حال قيادة منظمة التحرير. ولو نظرنا لأعضاء
اللجنة المركزية لوجدنا كل منهم منشغلا بمهمة لها الأولوية على
الانشغال الوطني، فمنهم رئيس جامعة، وآخر رئيس لجنة اولمبية، وثالث
رئيس مؤسسة ياسر عرفات، ورابع رئيس مؤسسة مالية – بكدار-، وخامس وزير
للشؤون المدنية، وسادس سفيرا، وسابع كبير مفاوضين لمفاوضات فاشلة،
واثنان تم فرضهم إرضاء لدول لا يمكن إغضابها، وأربعة آخرون غير متابعين
ما يجري حولهم لكبر سنهم والبقية جيء بهم للمركزية كرشوة مبطنة ليقضوا
بقية عمرهم في حالة تقاعد مريح الخ، وجميع هؤلاء خارج إطار المحاسبة
على أي تقصير في العمل الوطني إلا من جرؤ على التطاول على الرئيس.
كان الفتحاويون والوطنيون يأملون من المؤتمر السادس للحركة أن يشكل
منعطفا مصيريا في مسيرة الحركة يُعيد لها الاعتبار ويؤهلها لمواجهة
تحديات المرحلة الراهنة والاستعداد لمرحلة ما بعد حماس، إلا أن من هندس
وهيكل تنظيم فتح في الضفة غيَّب عن مهامه مواجهة الاحتلال حتى في إطار
مقاومة سلمية، ومن هندس تنظيم فتح في قطاع غزة بعد الانقسام قام بذلك
بما يُطمئِن حركة حماس ويعزز حالة الانقسام. بعض الفتحاويون يجرؤ على
البوح والتصريح علنا عن حالة الغضب التي تنتابهم، وآخرون يعانون بصمت
أو يتحدثون بالهمس إما خوفا على الرتب أو خوفا من أن يصب انتقادهم
لحركة فتح في صالح حركة حماس.
إن كانت قيادة المنظمة وقيادة فتح وكل قيادات الفصائل تمارس عملها
تحت الاحتلال وبرضاه وإشرافه، فكيف يمكن الاطمئنان بأن هؤلاء قادرون في
وضعيتهم الراهنة على استنهاض منظمة التحرير والمشروع الوطني التحرري ؟.
إن القيادة الحقيقية للمشروع الوطني التحرري لن تكون إلا لمن يملك
الإرادة و القدرة على التصادم مع الاحتلال وليس التصالح والتعايش معه،
إن من يتعايش مع الاحتلال وغير مستعد لمواجهته لا يمكنه أن يقود مشروعا
تحرريا، وللأسف وضمن واقع المنظمة وحركة فتح نخشى أن يأتي يوم يقول فيه
البعض أنه لم يتبق من المنظمة إلا صفتها التمثيلية، ولم يتبق من حركة
فتح سوى قبر أبو عمار.
ليس هذا تشكيكا بوطنية حركة فتح وبقية القوى الوطنية، وأني على يقين
بأن الانتماء لفلسطين وللوطنية متأصل في قلوب وأفئدة كثيرين من قيادة
المنظمة وفتح وبقية الفصائل وهم غير راضين عما آل إليه أمرهم ويشعرون
بأنهم مقصرون بواجبهم، ولكن العجز والإحباط من جانب وصيرورة معيشتهم
معتمدة على ما تمنحه السلطة من راتب وامتيازات من جانب آخر يدفعهم
للصمت، ولكنه صمت تنطبق عليه مقولة :( الساكت عن الحق شيطان أخرس). إن
في ثنايا نقدنا إحساس بالطريق المسدود الذي وصلت إليه كل القوى
السياسية الفلسطينية ودعوة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وللاستفادة مما يجري
من حولنا من متغيرات، وهو الأمر الذي يستدعي جهدا من كل الوطنيين
لإعادة الروح للقضية الفلسطينية وللوطنية الفلسطينية التي باتت مهددة
من مصادر متعددة، إن كانت إسرائيل على رأسها فليست الوحيدة.
Ibrahemibrach1@gmail.com |