صِرَاعُ العِلمَانِيّينَ وَالإسلامِيّينَ

بَقَاءُ النَظَرِيّاتِ وَ فَنَاءُ الوَطَنْ

محمّد جواد سنبه

في شهر شباط من عام 2011، أُطلقت في بغداد حملة (الحريات أولاً)، واردفتها حملة على الفيس بوك تحمل شعار(بغداد لن تكون قندهار). وربما ستنطلق حملة ثالثة في غضون الاسبوع الثاني من شهر أيلول الجاري، حيث تبدو في الأفق بواكير ظهور هذه الحملة. وسبب هذه الحملات قيام أجهزة الشرطة العراقيّة، بغلق محلات بيع الخمور، والنوادي الليليّة غير المجازة. والملفت للنظر سرعان ما يتحول الموضوع إلى مكاتب السّياسيّين، ويأخذ شكل قضيّة كبيرة. فتبدأ بيّن الكتل السّياسيّة، عمليّة تسجيل المواقف والمواقف المضادّة. ويدخل الموضوع في إطار أزمة سّياسيّة، يحاول أنْ يُسجل فيها هذا الفريق من الفرقاء السّياسيّين، موقف المنتصر على الفريق الآخر.

هذا الجوّ المتأزّم، يعكس موضوعاً مركزيّاً، أصله وجود صراع فكريّ وثقافيّ، وربما آيديولوجيّ بيّن السياسيين، مُسّتبطن تحت عنوان هذه الحمّلة أو تلك. ويلعب الإعلام دوراً مهماً في نقل المواقف إلى الجمهور. وتدخل على الخطّ المكاتب الإعلاميّة لبعضّ الكتل السّياسيّة، التي تأخذ بإصدار بيانات الاستنكار، تصاحبها تصريحات عاصفة لبعضّ النّواب. فقد نشرت جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 7 أيلول الجاري، عنواناً على صفحتها الرئيسيّة: ((العراقية) وقيادات مسيحية وشيوعية تستنكر حملة غلق النوادي الليلية). وورد في تفاصيل الخبر أنّ إئتلاف العراقية أصدر بياناً استنكر فيه تلك الحملة، وذكرت الجريدة أنّ السيّدة ميسون الدملوجي قالت في هذا البيان: (إنّ هناك حملة منظمة لقمع الحريات والتضييق على التعددية الفكرية وحق التعبير عن الرأي). لتفكيك هذه القضيّة المعقّدة، لابدّ من مناقشتها في محوريّن، المحور الأوّل:

أنْ نُدرك بأنّ الأصل في الدوّلة المدنيّة الدّستوريّة، هو تطبيق القانون المستمدّ من رؤية الدّستور، هذا أولاً. وثانياً، لا اعتبار لأي رأي أو تصوّر، يخالف وجهة نظر القانون المطبّق. نعم تبقى هذه التّوجهات مجرد وجهات نظر تخصّ أصحابها، والدّستور أعطى للجميع حقّ إبداء الرأي. لكنْ من الخطأ أنْ تتحوّل وجهات النّظر تلك، إلى بديل عن القانون. أو نشاط معطّل لتطبيق القانون، لأن القانون هو الأصل في أيّ نظام ديمقراطي، ولا أحد يكون فوّق القانون. ومن المعلوم للجميع أنّ القوانين تسنّ في مؤسّسة تشريعيّة منتخبة (بغضّ النظر عن كفاءة أعضائها، وأجواء انتخابهم)، كما أنّ الدّستور تمتّ المصادقة عليه باستفتاء شعبي، تحققت نسبة الأغلبية فيه،(بغض النّظر عن حاجة الدّستور إلى تعديل أو تغيير).

الجّهات الحكوميّة تستند على قانونيّة حملتها، كونها معزّزة بأوامر قضائيّة، لذا تقوم بغلق بعض محلات بيّع الخمور والملاهي الليّلية، لأنّها غير مرخصّة. إلى هنا يجب على الجميع، إحترام إرادة السلّطة التنّفيذيّة، في تطبيقها للقانون ورعايتها له. يبقى أنْ تكون الرغبة الشخصيّة، لهذه الجهة أو تلك، كونها لا تنّسجم مع قرار الحكومة، فذلك لا يعني أنْ تَخضع السلّطة التنّفيذيّة وإرادة القانون، لهذه الرغبات الشّخصيّة. فيجب أنْ ينصاع الجميع لإرادة القانون، باعتباره المظلّة التي تحمي الجميع. هذا من جهة، ومن جهة ثانية على جميع المكوّنات السّياسيّة، تأييد تطبيق القانون لأنّ في ذلك، إشاعة لثقافة سيادة واحترام القانون، بيّن أبناء المجتمع.

مع الإيمان الكامل، بأنّ أيّ قانون وضعيّ في دول العالم، لا يلبي طموحات ورغبات كلّ المجتمع، في أيّة دولة كانت على الإطلاق. كما يجب أنْ لا تُحسب التّصرفات السلبيّة، لبعض منتسبي الجهاز المُنَفِذّ للتّعليمات، بأنّها علّة لانتهاك حقوق الإنسان، تتحمّلها السلّطة التنفيذيّة. بل تُحسب على أنّها تصرفات شخصيّة غيّر منّضبطة، قام بها بعض المنّتسبين، وعلى المسؤولين محاسبة هؤلاء الأشخاص المقصّرين، (وهذا يحدث في أغلب بلدان العالم تحضراً وديمقراطيّة، حدث في بريطانيا عندما استخدمت قوات الشرطة القوّة بتعسّف، ضد المتظاهرين الأفارقة في أيلول عام 2011. وحدث في أمريكا عندما أُدينت المجندة الأمريكيّة (سابرينا هارمان) في 17 أيار 2005 مع ستة جنود أمريكيين في قضيّة سجن أبو غريب). المحور الثاني في مناقشة الموّضوع:

إنّ جوّهر موضوع الاعتراض، على حملة إغلاق محلات بيّع الخمور والملاهي الليّلية، نابع من أصل فكريّ و رؤية ثقافيّة وعقائديّة، لطرفين كبيرين مشتركين في العمليّة السّياسيّة، هما: الاتّجاه العلماني، و الاتّجاه الإسلامي. هذان الاتّجاهان يقفان بالضدّ من بعضهما البعضّ، إنطلاقاً من القناعات الفكريّة لكلّ طرف. فالعلمانيون يعتقدون أنّهم حملة لواء الحداثة، وأنّ الإسلاميّين هم طرف غير مواكب للمدنيّة، وأنّهم يؤمنون بنظريّة تطبيّق الشّريعة الإسلاميّة، وهذه التّطبيقات لا تلائم الواقع، وهي قيم بالية لا تواكب العصرنة. وكذلك الإسلاميون ينظرون إلى العلمانيّين، بأنّهم أشخاص يتنكّرون للأصالة ولتاريخ شعوبهم، وأنّ أفكارهم مجرّد مسّتنسخات، لتجارب غربيّة، لا تتلائم مع واقع حياة المجتمعات الإسلاميّة.

إنّ هكذا طرح متشدّد من الجانبيّن العلمانيّ والاسلاميّ، لا يمكن أنْ يكون برنامجاً لانتاج دوّلة مدنيّة، تؤمن بالتّعايش السلميّ، واحترام حقوق الآخرين. العلمانيون والإسلاميون في العراق، ماضون إلى صراع فكريّ، ينتهي بالنتيجة إلى أنْ يُلغي أحد الأطراف، الطّرف الآخر، وهذا ليس في مصلحة العراق وشعبه. فنحن إزاء مواجهة مشاريع متشدّدة، سواءً كانت علمانيّة أو إسلاميّة. في حين أنّ طبيعة المجتمع العراقي، تميل إلى التّسامح والتآخي أكثر من الميل إلى التعصب والتّقاطع، هذا ما يفرضه التاريخ الطويل للشّعب العراقي على أرض الواقع.

لقدّ عشّنا أجواء العراق في شبابنا، إبّان عقدي السّتينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي. وكانت تلك الأجواء مفّعمة بروح الصداقة والتّسامح والأخوّة. وأغلب المجاميع الشبابيّة، تضمّ الإسلامي والشيوعي والمسيحي، وفي بعض الأحيان الصابئي أيضاً. كلّنا كنّا نفكّر بمستقبل وطن، يمتلك قدرات ماديّة كبيرة وكفاءآت بشريّة خلاّقة. كنّا نفتخر بعالم الفيزياء العراقي الصابئي عبد الجبار عبد الله، وبالعلامة مصطفى جواد، وبشاعر العرب الكبير محمد مهدي الجواهري، والشاعرة نازك الملائكة، والاستاذين الكبيرين طه باقر وجواد علي. وكلّنا يفتخر أيضاً، بشخصيّات أسّست النّهضة الثقافيّة العراقيّة، مثل الاستاذ مير بصري(من الطّائفة اليهوديّة) صاحب موسوعة أعلام العراق، والاستاذ المهندس احمد نسيم سوسة (من الطّائفة اليهوديّة واسلم فيما بعد) صاحب المؤلفات الكثيرة أشهرها (اليهود والعرب في التاريخ، وادي الرافدين، وادي الفرات وغيرها). والأب انستاس الكرملي صاحب مجلة لغة العرب، والكاتب الموسوعي روفائيل أبو اسحق، ورائد الصّحافة العراقيّة روفائيل بطي، واستاذيّ علم الاجتماع علي جواد الطاهر ونوري جعفر. كلّ واحد منّهم، ينتمي لدين وطائفة وقوميّة ومذهب، لكنهم بالمجموع يشكّلون رموز عراقيّة، والجميع يفخر بهم.

فيا تُرى هل مرّ الإنّسان العراقي بعمليّة مسخ فكريّ، تعرّض فيها العقل العراقي لبرامج غسل الأدمغة، وتدمير القيم الوطنيّة؟.

أمّ مغريات السلّطة والجاه، فرّقت الجميع وصرفتهم عن مشروعهم الوطني؟.

أمّ قُصْر النّظر وسوء التّقدير والتّدبير، هي الأسباب الكامنة وراء تدمير العراق؟.

إنّ مشروع بناء العراق، لا يتمّ إلاّ من خلال استيعاب العلمانيين لفكرة، أنّ الإسلاميّين همّ مكوّن لا يمكن إخراجه، من معادلة مشروع حكم العراق وبنائه، والعكس صحيح تماماً. المشروع الوطني العراقي، يحتّم على الإسلاميّين أنْ يكونوا وسطيّين في تصوراتهم. مثلما يتطلّب ذلك من العلمانيّين، أنْ يكونوا وسطيّين في ليبراليتّهم. وبدون هذا المنهج فلن يولد مشروع بناء العراق أبداً.

في الختام استوقفني مقال بعنوان (حول موقفنا من الإسلام) للأستاذ سليم مطر، جاء فيه:(ان نبادر نحن الوطنيون واصحاب الضمائر(بما فينا الملحدين وغير المسلمين)، الى مواجهة هذه الحقيقة والاعتراف بان الاسلام موجود في شعبنا وفي ثقافتنا وفي تقاليدنا وفي عقليتنا وفي حياتنا اليومية، رغما عنا، شئنا ام ابينا. أي هو جزء فعال وحيوي واساسي وحاسم في هويتنا الوطنية. ويعيشه ويواجهه يوميا، ليس المؤمنين به، بل حتى الملحدين وغير المسلمين.)(موقع الحوار المتمدن).

نعم لنَبدأ بالمنهج الوسطي، حتى نُعيد تشّكيل رؤيتنا الوطنيّة من جديد، كي يبقى العراق لنا ولأجيالنا اللاحقة أيضاً. أمّا أنْ تستمر الصّراعات السّياسيّة بيّن هذا الطّرف وذاك، فهذا يعني بشكل مؤكّد، أنّ هناك مخططاً لتدمير العراق، من خلال تطبيق عمليّة حرق المراحل الواحدة تلو الأخرى.

* كاتب وباحث عراقي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 13/أيلول/2012 - 25/شوال/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م