في البدء أعتذر إن كان ما سأكتبه ليس فيه الكثير من الدبلوماسية ففي
غياب الدبلوماسية وأخلاقياتها وديونتولوجيتها لا حاجة للغتها. فالكلمة
الوقحة التي أطلقها الرئيس المصري ابتعدت كثيراً عن حدود اللباقة
الدبلوماسية. فقد فضل ''مرسي الإخواني'' أن يقدم، ولو متأخراً، شهادة
حسن سلوك لـ''الأممية الوهابية'' التي تمسك بشيكات النفط، وقطع نصف
الطريق الى المنظومة الأردوغانية الطامحة لجعل تركيا بديلاً إقليمياً
يرث وظيفة إسرائيل، وأرسل الإشارات بالانضباط الى السادة القدماء ـ
الجدد في واشنطن الذين يحكمون قبضتهم على قروض صندوق النقد.
ففي عدم الانحياز في إيران حضرت الشعوب وغابت لهجة التحكم بها ولم
تستطع ''هيلاري كلينتون'' العجوز الأميركية تسجيل خروقات إلا عبر مندوب
مبيعاتها والمسوق لرغباتها وتجارتها الدموية الرئيس المصري ''محمد مرسي''
الذي حضر هو الآخر وغيّب مصر العروبة مُسقطاً أي أمل في عودة ''أم
الدنيا'' إلى دورها العروبي القيادي على المدى القريب بل أنذر بدخولها
مرحلة أخطر من الغيبوبة السياسية ويبدو أن آمال استيقاظها لن تظهر مع
استمرار الإشراف الإخواني عليها...
لقد خمّن أن المراوغة السياسية يمكن أن تضمن له مكانة كلاعب أساسي
في الخارج طالما أنها مكنته، في الداخل، من الاستحواذ على كامل السلطة
وتصفية الخصوم بالتدريج، وظن أن بالإمكان مقايضة إيران من خلال معادلة:
أعط وخذ! فيشارك في قمة طهران، ويصطنع أجواء تطبيع، ليوهم الجميع،
بالمقابل، بأنه المحاور الذي طال انتظاره والبحث عنه، في الملف السوري.
ولكنه لم يخرج بشيء سوى المجازفة بنعي الدور المصري الموعود، وسوى
العودة الى أحضان ''طويلي العمر'' التي حكمت على دور ''مبارك'' سابقاً
بالشلل والموت السريري.
لم تكن كلمة ''الرئيس المستجد'' في قمة عدم الانحياز في الحقيقة إلاَّ
تعبيراً واضحاً عن الهيستيريا التي أصابته و شركاءه من الغرب نتيجة ذلك
الفشل المتكرر والمتراكم لمحاولات إسقاط سورية رغم كل الإمكانيات
الهائلة التي وظِفَتْ لهذا الغرض. ولم يستطع ''مرسي'' أن يفارق جلده
كشيخ واعظ مهمته تهييج الجموع، والتلاعب بالمشاعر، والمتاجرة أخيراً
بدماء المسلمين. خطيب شعبوي وقع أسير الرؤية الضيقة والانتقامية التي
لا تزال تميز كل تنظيمات الإخوان المسلمين. لم يتصرف كرجل دولة يتمتع
بحس المسؤولية، وأرخى العنان لبلاغته الجوفاء كي ينتزع مصر، من خلف
ميكروفون، من نسق علاقاتها التاريخية مع سورية، متجاهلاً عمق الارتباط
المصيري بين بلدين وشعبين طالما جمعتهما التحديات والانتصارات في
مواجهة مشاريع الهيمنة الخارجية والغزو الأجنبي.
من حق ''مرسي الإخوان'' أن يصاب بهذه الخيبة و المرارة، بل و أن
يصاب بالجنون لأنه يعلم تماماً أن ثبات سورية وعدم سقوطها هي في
الحقيقة كارثة كبرى بالنسبة لذلك المشروع الخطير الذي تم إعداده
للمنطقة والعالم، والذي لم يبدأ قبل سنة أو سنتين بل أن خيوط تلك
المؤامرة الشيطانية بدأت تحاك قبل عشرات السنين، وبالتحديد منذ أن قرر
اسحق أكانان روتشيلد ـ ذلك اليهودي الألماني ـ أن يسيطر اليهود
الصهاينة على العالم. غادر''الرئيس المستجد'' موقع عدم الانحياز الذي
يفترض أن يميز كل صاحب مبادرة، وانحاز بعيداً في المزايدة بحيث سبق
بأشواط طويلة كلاً من هولاند وكاميرون، وعلى نحو ترك قمة عدم الانحياز
في حالة من الصدمة والذهول.
ورغم الأدلة الدامغة والساطعة سطوع الشمس وسط النهار التي تؤكد أن
ما يجري في سورية ليس إلا إرهاباً تمارسه عصابات مسلحة... نجد أن ''مرسي
مصر'' في كلمته المبعثرة، يستمر كغيره من عربان أمريكا في اتهام
السلطات السورية بقمع شعبها وقتله... هذا التجاهل والاتهام غير الشرعي
وغير الأخلاقي يؤكد للشعب السوري أولاً وللشعوب الحرة في العالم ثانياً
ولأنظمة الحكم التي لا ترى بعين واحدة أن تلك الدول وفي مقدمتها ''مصر
الإخوان'' منغمسة انغماساً كلياً في المخطط التآمري الهادف للقضاء على
سورية قيادة ونظاماً سياسياً وكياناً ومن ثم القضاء على دورها المحوري
في الصراع الدائر مع ''إسرائيل'' ومع المشروع الصهيوأميركي. لم يكن ما
أعلنه ''مرسي'' هو الدليل الذي يبحث عنه العالم لتأكيد شراكة جماعته في
سفك الدم السوري، غير أن هذا الاعلان يسهم في تظهير وجهة وأثر المال
القطري السعودي القذر الذي يدير غرفة عمليات الفتنة والارهاب، ويسهم في
إظهار لعبة تبادل الأدوار مع السعودية وتركيا لتصعيد الوضع وتوتير
المنطقة من جهة، ولإفشال قمة حركة عدم الانحياز والمبادرة الايرانية
لحل الأزمة في سورية في محاولة لتحجيم الدور الايراني الايجابي الصاعد
إقليميا ودولياً.
فالالتزام الأخلاقي الذي عبر عنه ''مرسي'' هو التزام ورضوخ لا
أخلاقي للسياسة الأميركية، والضرورة السياسية التي تحدث عنها هي ضرورة
لاستمراره في اعتلاء كرسي الحكم، ذلك أن النجاح في الاختبارات التي خضع
لها منذ توليه الرئاسة لا يكفي ولابد من النجاح في كل الاختبارات
الأميركية، فلم يكن كافياً ما فعله لجهة التزامه بكامب ديفيد، ولا لجهة
الأداء والاستجابة الكاملة لكل ما طلبته إسرائيل منه في موضوع المعابر
الى غزة وأحداث سيناء الأخيرة. فما تضمنته كلمة ''مرسي'' لا تنطوي فقط
على محاولة التدخل في الشأن الداخلي السوري على هذا النحو الفاضح
والمرفوض، إنما تحمل أبعاداً سياسية إقليمية ودولية يقع محور المقاومة
ضد السياسات الأميركية في مرمى الاستهداف، بل في صلب هذا الاستهداف،
ولم يكن الترحيب الأميركي المباشر بما قاله ''مرسي'' مجرد تصريح أو
تعليق عابر، بل هو دخول نشط على الخط مجدداً بعد أن وصلت الرسالة
الروسية إلى واشنطن من خلال الإعلان المسبق عن غياب الوزير'' سيرغي
لافروف'' عن اجتماع مجلس الأمن الدولي الأخير.
وثمة سؤال يسأله كل مواطن مصري عروبي لماذا لم يعلن الرئيس الجديد
موقفاً واضحاً وصريحاً من الصراع العربي الصهيوني وقضية مقاومة
الاحتلال بالرغم من الآمال الكبيرة التي عقدها عليه الفلسطينيون في
الأراضي المحتلة، لتخليصهم من الحصار الخانق الذي يفرضه عليهم الاحتلال
ودعم مقاومتهم المشروعة ضده، فهذه القضايا هي التي أعطت لمصر مكانتها
بين الدول العربية وأكسبتها احترامها بين دول العالم في مرحلة من
المراحل وهي نفس القضايا التي أضعفت مصر وجعلتها خارج الاعتبارات
الإقليمية والدولية...؟!
فعلى مدى سنوات طويلة تعودنا أن نجعل من الموقف من الكيان الصهيوني
بوصلة أي مسؤول أو حاكم عربي وبارومتر الحكم على وطنية أي شخص أو أي
حزب أو نظام ينتمي إلى هذه الأمة، فالرئيس الراحل جمال عبد الناصر أصبح
الزعيم العربي الأول الذي تهتف له الجماهير برغم مرارة نكسة 5 حزيران
عام 67، فقط لأنه لم يستسلم كما فعل السادات من بعده وبدأ حرب استنزاف
أعطى من خلالها انطباعاً بأنه سيستعيد الكرامة والاعتبار للشعب المصري
وللأمة العربية بعد تلك الهزيمة المشينة.
من الواضح أن ''مرسي مصر'' قرر الالتحاق بما يسمى محور الاعتلال
العربي ''الاعتدال العربي'' الذي أدار ظهره للقضايا العربية المصيرية
وفي مقدمتها قضية فلسطين، والتزم بمبادرة سلام مع إسرائيل لا تساوي
الحبر الذي كتبت به، ودليل ذلك أن الوجهة الأولى للسيد ''مرسي'' كانت
إلى مملكة آل سعود الوهابية حيث صاحب المبادرة العربية المضروبة بعرض
الحائط، وحيث النظام الذي يتاجر بالعروبة والإسلام كتجارته بالنفط
ومصير شعبه، فإذا التزم ''مرسي'' بمعاهدة كامب ديفيد التي شكلت ببنودها
المجحفة إهانة واستهتاراً بتضحيات الشعب المصري في حرب تشرين التحريرية
المجيدة، وقام بانفتاح على الولايات المتحدة الأميركية التي لطالما
حاربت المصريين بلقمة عيشهم ورهنت مصيرهم لمعونة اقتصادية لا تغني ولا
تسمن من جوع ودعمت فساد طاغيتهم حتى لحظاته الأخيرة، ومن ثم وطد
علاقاته مع الأنظمة العربية الرجعية الفاجرة التي باعت الأمة والقضية
وتاجرت بمستقبل الأجيال العربية...
فماذا يبقى من الثورة المصرية سوى الشعارات البراقة التي انطوت
عليها خطابات ''مرسي'' وحزبه الإخواني...؟!
فالقصة وما فيها هو أن حزب ''مرسي'' في مصر كحزب ''أردوغان'' في
تركيا يبحث عن السلطة بأي شكل من الأشكال وما هذا التقارب في الأسماء
بين الحزبين ''الحرية والعدالة'' و''العدالة والتنمية'' سوى دليل إضافي
على استنساخ التجربة التركية، وعندما وصل حزب ''مرسي'' إلى السلطة بدأت
الحقائق تتكشف كما هي دون تجميل أو تزييف.
إن كلمة ''مرسي مصر'' في قمة عدم الانحياز بطهران، صدرت عن استباق
للأحداث، وضمرت موقفاً حزبياً مسبقاً لرئيس أعلن تخليه عن الحزبية، وقد
أقسم ثلاث مرات ـ دون حاجة ـ مؤكداً العمل على مصلحة شعب مصر كله،
بينما، وكما هو واضح، كانت كلمته تختزن خطاباً إيديولوجياً مسبقاً لا
يعكس الحقيقة الكاملة في سورية والتي يدركها أشقاؤنا في مصر وغيرها،
فتجاهلت التدخل الخارجي، والوجود والفعل الإجرامي المؤكّد دولياً
للعصابات الإرهابية المسلحة، كما تجاهلت وجود مشروع إصلاح حقيقي ناجز
شعبياً وسيادياً في سورية، وهذا لاشك سيثير مخاوف أطياف مصرية واسعة من
أن تسقط الحزبية والليبرالية على السواء مع السلطة الإخوانية الجديدة،
وأن يكون هناك استقرار ماكر تتقوض معه الآمال العراض التي تراقصت في
مخيّلة الثائرين على نظام مبارك، والكل يعلم وبحكم التجربة التاريخية
مخاطر تحالف القوى الدينية والسلطة، ولاسيما أن شعبنا العربي والإسلامي
اليوم وبعد الإفادة من التطورات التكنولوجية بحاجة الى العلمانية
ومنجزات العقل والعلم، وهذا ما سيرتّب مهمات كفاحية مستمرة على عاتق
قوى الحداثة والتنوير، وعلى سائر الوطنيين والقوميين والتقدميين التي
تعجّ بهم أوطاننا، ونحن نلحظ كيف يدمّر بعض الإسلاميين بالأمس في
تمبكتو الأضرحة والآثار التراثية العالمية، وقبلها في ليبيا وفي
الصومال وفي باميان بأفغانستان، وهذا غيض من فيض... سيدفعنا الى القلق
على آثار مصر.
والشعب السوري الذي يستهدفه الإرهاب كل يوم من خلال المجموعات
المسلحة التي تعيث قتلاً وترويعاً وتخريباً بات مقتنعاً اليوم أكثر من
أي وقت مضى ولاسيّما بعد الكثير من عمليات الاغتيال للعقول والشخصيات
الوطنية... أن مصر الإخوانية تبارك هذا الإرهاب وتتظلل بظلال الدول
التي تدعم الإرهابيين بالمال والسلاح والإعلام... وبعضها بإيواء قادتهم
على أراضيها! وبات مقتنعاً ومؤمناً أن قائد ''مصر المستجد'' الذي يتشدق
بالديمقراطية وحقوق الإنسان وبالحرص على السوريين هو أبعد ما يكون عن
الديمقراطية والمصداقية ومصالح الشعب السوري... وأقرب ما يكون إلى
مصالح أعداء سورية... وفي ضوء هذه القناعة وهذا الإيمان فإن هذا الشعب
السوري العظيم ازداد إصراراً على المضي في محاربة الإرهاب والإرهابيين
وعلى تعزيز وحدته الوطنية وعلى متابعة مسيرة الإصلاح بقيادة رئيسه بشار
الأسد مهما كانت التضحيات.
إن جماعة ''مرسي الإخوانية'' في مصر كانت في عهد السادات ومبارك
مطاردة ومحظورة... وجميع أعضائها تقريباً دخلوا السجن، وهذا لم يكن
بأوامر من مبارك فقط، بل من الإدارة الأميركية. أما عن حالة الرضى
الأميركية عنهم في هذه المرحلة ولاسيما بعد وصولهم لسدة الحكم، فمرد
ذلك ليس للأكثرية الإسلامية في مصر، بل للتغيير الراديكالي الحاصل في
العقلية الجديدة في فكر كبار الأعضاء، وتم اختبار هذه الحالة في خضم
الصراع على السلطة، زيارة مفتي مصر إلى القدس الشريف، حيث لم نر
مليونية حاشدة في ميدان التحرير لمحاسبة المفتي، وقبلها مصافحة شيخ
الأزهر الراحل ''محمد طنطاوي'' للمجرم ''شمعون بيريز''، كل هذه الأمور
مرت ولم يعقب أحد على ذلك. وحتى تطمئن واشنطن لهذه الجماعة، عملت على
تغليف الرئاسة بالمجلس العسكري، أي جعل العسكر مستقلين تماماً وقيادتهم
مستقلة، ولم يعد الرئيس القائد العام للقوات المسلحة، ولا يملك حق
إعلان الحرب، وتم أيضاً حل مجلس الشعب المصري ذي الأغلبية الإخوانية،
ليأتي بعد ذلك بمجلس ذي ديكور جديد على مقاس واشنطن و(إسرائيل)، وترك
الرئيس الجديد يتيه في الإصلاحات التي تعتبر بالمخاض العسير، لأن ما
تركه الرئيس المخلوع، دولة تفتقر إلى جميع المرافق، والعجز الاقتصادي...
ونسبة بطالة عالية جداً قياسا مع عدد السكان الذين قاربوا التسعين
مليون مصري.
ولابد أن نشير أن العلاقة بين الإخوان والأمريكان ليست مفاجأة
بالنسبة لمن يعرفون تاريخ الإخوان السياسي، فالتاريخ شهد وقائع عديدة،
فقد التقى مرشد عام الجماعة ''مأمون الهضيبي'' بمسئولي السفارة
الأمريكية في القاهرة وعقد معهم اجتماعاً استمر 3 ساعات وطلب منهم
تصفية بعض عناصر الثورة بخاصة ''جمال عبدالناصر''، بل وطالب ''الهضيبي''
عبر ممثله الشخصي لدي الخارجية الأمريكية بتأييد الإخوان لمساعي
التسوية مع إسرائيل من خلال اتصالات بزعماء اليهود في الخارج وفي
إسرائيل، وتلك المعلومات كما أوردها الكاتب ''عبد الفتاح عساكر'' في
مؤلفاته وهي عبارة عن الوثائق الأمريكية السرية التي تم الإفراج عنها
عام 1984، وكان الباحث المصري الدكتور ''رضا أحمد شحاتة'' أستاذ
العلاقات الدولية والسفير بوزارة الخارجية المصرية آنذاك قد جمع تلك
المعلومات الموثقة من الوثائق الأمريكية وقارنها بعشرات الوثائق
المكتوبة والمحفوظة في لندن وواشنطن وأصدر كتابه المهم ''تطور واتجاهات
الخارجية الأمريكية نحو مصر منذ الحرب العالمية الثانية وحتي انتهاء
حرب السويس'' المودع بدار الكتب تحت رقم 1784/1995 وأكد فيه الباحث أن
اتصالات مندوب الهضيبي ''محمود مخلوف'' الذي تربطه علاقة مصاهرة
بالهضيبي لم تتم مع السفارة الأمريكية بالقاهرة فقط بل مع إدارة الشرق
الأدنى بوزارة الخارجية الأمريكية ليؤكد الفائدة من توثيق صلات
الولايات المتحدة بالإخوان، وأكد الدكتور ''رضا شحاتة'' أن التقارير
الأمريكية المرسلة من وإلي الخارجية الأمريكية كان مرفقاً معها تقارير
بخط اليد لبعض الإخوان الذين كانوا علي اتصال بالسفارة مع ''الهضيبي''
و''مخلوف''، ولاشك أن التطورات الأخيرة قد كشفت الكثير من الحقائق.
أما في حالة ''مرسي مصر'' الذي جاء في أعقاب ثورة شعبية فجرها أبناء
مصر وحملت شعارات مرتبطة بقضية فلسطين ونادت بإسقاط معاهدة كامب ديفيد،
فقد فوجئ الجميع بسرعة التزامه واحترامه للمعاهدات والمواثيق الدولية
وهو لم يكن يقصد سوى معاهدة كامب ديفيد، كما فوجئ الكثيرون بحفاوة
الاستقبال الذي لقيته ''هيلاري كلينتون'' وزيرة خارجية الولايات
المتحدة الدولة الحليفة لإسرائيل من قبل ''مرسي'' وحزبه في الوقت الذي
كان فيه أبناء الثورة الحقيقيون يحتجون على زيارتها ويرمون موكبها
بالبيض والبندورة في إشارة إلى امتعاضهم ورفضهم للدور التخريبي الذي
تلعبه واشنطن في منطقتنا سواء لجهة دعم الاحتلال الإسرائيلي أو لجهة
التدخل السافر في الشؤون الداخلية للدول العربية.
وفي هذا السياق، قال الكاتب المصري ''فتحي خطاب'' في مقال بعنوان:
''الديمقراطية الجريحة في مصر'' أن أغلبية 51 بالمائة التي حصل عليها
''محمد مرسي'' مرشح حزب الحرية والعدالة تحت مظلة الجماعة الأم الإخوان
المسلمين في انتخابات الرئاسة المصرية لا تكفي كي ينفرد حزبه وجماعته
بالحكم حتى ولو كانت تكفي هذه الاغلبية الضئيلة للحكم في أوضاع مستقرة
ولكن في الاوضاع الاستثنائية لا تصلح للحكم. وأعرب ''خطاب'' عن
اعتقاده بأن ''مرسي'' لا يصدر قراراته منفرداً وإنما ينسق مع مكتب
الارشاد العام لجماعة الاخوان المسلمين المصرية، إن لم يكن ينفذ
تعليمات وأوامر الجماعة، فهناك ارتباط عضوي بين مؤسسة الرئاسة والإخوان
مذكراً أن التاريخ عرف أشكالاً من الحكومات التي أتت عن طريق
الانتخابات وكانت استبدادية كالفاشية والنازية في إيطاليا وألمانيا.
لقد عصف ''مرسي'' بمبادئ عدم الانحياز التي قدمت للعالم قادة كباراً
مثل نهرو وتيتو وسوكارنو وعبد الناصر وحافظ الأسد، وبدد آمال العودة
الى روح مؤتمر باندونغ، ليسقط في المحرمات عندما جمع، في متلازمة واحدة،
قضية فلسطين مع ما أسماه قضية الشعب السوري، وكأنه يحرض السوريين علناً
على الإلقاء بأنفسهم في ''صراع وجودي''، والانزلاق في متاهة الحرب
الأهلية وآلية التدمير الذاتي، مطلقاً على هذا النحو، وعلى يد إسلامي،
سلسلة التفاعلات التي ما كان حتى عتاة الصهاينة، وأشد المحافظين الجدد
يمينية، ليحلمون بها، والتي ستنتهي حكماً الى تكريس واقع يفرض الاعتراف
بيهودية إسرائيل. وأضاف ''الرئيس المستجد'' خيبة إضافية الى خيبات ''الربيع''
المزعوم، لقد أراد سرقة الأضواء واختطاف دور فإذا به ينتهي الى المزيد
من تقزيم مكانة مصر... فهو مجرد مبشر كاذب للديمقراطية يعمّق واقع
الإحباط ويملأ الأفق العربي بالشكوك.
ومما سبق، فقد أصبح واضحاً أن صاحب القرار المصري في النظام العربي
الراهن ليس مالكاً لزمام التخطيط لبلاده استراتيجياً ولا تكتيكياً، بل
هو يساق إلى هذا وفق مصالح إسرائيل المتكفلة أميركا وأوروبا بتحقيقها
دوماً ولو دمّروا العرب وقتلوهم في كل زمان. واليوم نشاهد العقل
المفروض على حُكّامٍ في إطار ما يسمى بعرب الاعتلال، وهم غرباء أكثر
منهم عرب. يعملون من أجل التدخل في سورية وتدميرها لا من أجل ما تحتله
إسرائيل من جنوب لبنان حتى الجزر المحتلة من أراضي الجزيرة العربية في
البحر الأحمر. ونجد أن حماس ''مرسي مصر'' ليس فيه أية قيمة مضافة في
العقل الوطني والقومي والإسلامي تدعوه كي يكون وفياً لقضاياه العربية
وأميناً على مصالحها لا سيما وهو من حكام الربيع الإسلامي المتأمرك.
لقد أساء مرسي في خطابه إلى الشعب المصري العريق، الذي يقف إلى جانب
شقيقه الشعب السوري في كفاحه ضد المرتزقة الوهابيين والأطلسيين
والمتطرفين، وأساء إلى التاريخ المشترك للشعبين والدولتين، وحاله يقول:
إنه يسدد ثمناً لجهة ما، ولكن هذا الثمن ستثبت الأيام في المستقبل أنه
باهظ جداً ولن يستطيع مرسي وجماعته تحمل تداعياته في الساحة المصرية
وخارجها.
فمواقف ''مرسي'' ضد الشعب السوري في ''عدم الانحياز'' لن تغير من
المشهد السياسي المتكون دولياً بضرورة ترك الشعب السوري يقرر مصيره
بنفسه، ولكنها تشكل وصلة في سلسلة حلقات التحريض الإعلامي والسياسي
التي اعتاد عليها الشعب السوري منذ بداية الأزمة حتى الآن.
ف ''مرسي مصر'' بالوكالة عن العربان والغربان حاول تقويض استقلال
وسيادة سورية العربية المستقلة، وطرح شعارات اعتبرها أهمّ من تحرير
الأراضي المحتلة كما تريده أن يكون عليه أميركا وإسرائيل. ومن هنا
فالدولة الوطنية العربية إذا امتلكت الهدف القومي للوصول إلى الدولة
القومية للعرب فهي مرفوضة ويجب أن تهدم، وحتى نلطف الأمر نسمح بدلاً
عنها بالدولة القائمة على الإسلام السياسي، ثم نعود لاحقاً لهدم هذه
الأخيرة والذرائع موجودة مسبقاً، فالمهم أن تكون الأزمة السورية مؤدية
إلى دمار سورية وليس إلى فائض العقل الحكيم الذي يوفر شرط الوصول إلى
عملية سياسية ناجحة عبر حوار وطني مكفول النتائج، وشراكة وطنية فيها
كافة القيم المضافة للسياسة القائمة على منطق العقلانية المفروضة،
والواقعية الآمنة والمؤمّنةِ للجميع.
وبغير هذا فلن يكون الاحتكام إلى فوائض العنف، وقيم تعريض الوطن إلى
المزيد من تدمير وحدته الجيوتاريخية غاية نبيلة تضمن لأهل الوطن خروجاً
معافى من الأزمة، أو وصولاً مأموناً إلى المستقبل وأرض السلامة،
والاستقرار، والوجود الكريم للوطن بمجتمعه، ودولته، وخارطته، ومن أعظم
مهام العقل الوطني، والقومي اليوم أن يدرك استراتيجياً خارطة أهداف
عدوه، ويعمل استراتيجياً ضدها حتى يبقى على أرض الأجداد، ومن دون ذلك
فالقيمة المضافة التي ننتجها هي أن ندمّر وجودنا خدمة لوجود أعدائنا
المحتلين لأرضنا، والمخططين لتقسيمنا، وانقراضنا. وقد تأخذ المعركة
السياسية الدبلوماسية مسارات جديدة بعد أن نجحت الولايات المتحدة في
وضع مصر في هذا الموقع الذي يفقدها دورها العربي والإسلامي والإفريقي
والإقليمي، لكنها لن تغير في المآلات النهائية للصراع الحاصل.
وأخيراً وليس آخر، فمن يعتقد أن فتح كل الدروب أمام العدو الصهيوني
للمرور في وطننا العربي الكبير ورمي طوق النجاة له كلما ضاقت الحلقة
على عنقه واقترب استحقاق السلام واستعادة الحقوق في مقابل كل ما نراه
على الشعب السوري وحكومته من حصار ومقاطعة أدت لحدوث تراجع خطير في
مستوى المعيشة وإفقار عدد كبير من هؤلاء الذين تزعم هذه الدول المقاطعة
''بكسر الطاء'' بالتضامن معهم وحقن دمائهم سيكون أمراً طبيعياً في نظر
المواطن العربي، أو أن منح الكيان الصهيوني فرصة الانفراد بالشعب
الفلسطيني عبر الادعاء بانشغالهم في الهم السوري سيمر مرور الكرام ولن
يلتفت إليه أحد، إن هذا الوهم سيتبدد عما قريب وستعرف كل الدول التي
انصاعت للدول الغنية التابعة لأميركا أن ما قامت به كان خطأً كبيراً لا
يساعد في رسم أي مستقبل للمنطقة العربية. |