الكذب والغش والسرقة!

مهند حبيب السماوي

ابدى البروفسور رونالد ريغو، وهو بروفسور علم القيادة الذي لديه اكثر من مئة كتاب وبحث ومقالة في مجال علمي القيادة والنفس الاجتماعي، وهو ايضا المدير التنفيذي السابق لـــــ(Kravis Leadership Institute at Claremont McKenna College)، امتعاضه ودهشته الشديدتين من الغش الذي يمارسه بعض طلبته في امتحانات مادته الدراسية في الجامعة!.

الغش في شكله العام، وليس الخاص بالطلبة في امتحاناتهم، سيكون هو الموضوع الذي سيركز عليه محور الجزء الثالث من سلسلة " مقالات بحثية"، بالاضافة الى السرقة والكذب، اذ سيقف المقالة عند بعض المظاهر السلبية للسلوك الانساني، ونتطرق فيه الى ثلاثة من اخطر هذه السمات التي تمارسها بعض الشخصيات وهي الكذب والغش والسرقة...التي تعتبر سمات جدير بأي شخص أن يعرف الأبعاد المختلفة لها والاسباب التي تقف ورائها.

وعطفا على ما بدانا به من حديث البروفسور رونالد ريغو، فيما يتعلق بما يشاهده من حالات غش في الجامعة، اشار في مقالته " لماذا يكذب، يغش ويسرق العديد منا؟ بانه حالما ادرك حالة الغش الذي يقوم بها الطلبة..." قمت باتخاذ إجراءات لايقف هذا الغش" لكن " ما ادهشني حقا بان العديد من الطلبة يستمرون في محاولات الغش حتى بعد ابلاغي للجميع بان هنالك عقوبات صارمة تنتظر الذين يمارسون الغش".

ويتحدث ريغو، وهو الذي مارس التدريس في الجامعات اكثر من ثلاثين سنة، عن حالات الغش التي قام بها الطلبة خلال هذه المدة....وهو يذكر أسوأ حادثة غش مرت به حينما تسربت اسئلة الامتحان الى بعض الطلبة فقاموا باستنساخها وتوزيعها على بعضهم البعض.. ثم اكتشف ذلك في ليلة الامتحان فامضى، كما يقول، ليلته كلها باعداد اسئلة جديدة قدمها اليوم الثاني للطلبة في الامتحان ويعترف ريغو بانه " كان مسرورا جدا لرؤيته اوجه الطلبة الخائفة والحائرة حينما قلبت اوراق الاسئلة بجنون ووجدتها مختلفة عما تم تسريبه لهم".

الدراسات والبحوث الانسانية التي تناولت ظاهرة الغش اكدت، على حد تعبير ريغو، على ان " اغلبنا في ظروف معينة مناسبة، في الواقع يكذب، يغش ويسرق "، وفي هذا الصدد قدم دان اريلي، وهو بروفسور علم النفس والاقتصاد السلوكي في(Duke University)، وصاحب كتاب "الحقيقة الصريحة حول الخداع... كيف نكذب على الاخرين وخصوصاً على انفسنا!" الذي صدر في حزيران الماضي، بحثا نشره في 26 مارس الفائت في صحيفة وول ستريت جورنال، يسلط بعض الضوء على اسباب قيام الكثير من الطلبة بالغش في الامتحان، ولماذا (اذا مُنحنا فرصة ما، فأن أغلبنا يفعل نفس الشيء، او حتى ربما نسرق قليلا من المال !) على حد تعبير اريلي!.

وقد قام اريلي بتجربة، يقول عنها بانها سبب أساسي لمعلوماته حول عدم النزاهة والخداع، على بعض الطلبة حينما قام باعطائهم عدة مصفوفات تتضمن مشكلات رياضية من اجل حلها وطلب منهم تدوين عدد الاجوبة الصحيحة...ثم وضع نتائج الاختبار في الة لتقطيع الاوراق(في الحقيقة النتائج لم تقطع فعلا)..وطلب بعد ذلك منهم الابلاغ عن عدد الاجوبة الصحيحة ووعدوا بمنحهم مبالغ نقدية ازاء كل حل لاي مصفوفة.

نتائج اختبار اريلي أظهرت بان معظم الطلبة تغش قليلاً...حيث بالغوا في ذكر عدد المصفوفات التي قاموا بحلها...واستنتج بان " قليلا من الطلبة يقومون بالغش الى حد كبير، وقليلا فقط يكونون مخلصين ولايقومون بالغش تماما"، وارجو الانتباه الى كلمة "حد كبير" في وصف الغش وكلمة "تماما" في وصف النزاهة !.

اما عن التأثيرات التي تؤدي وتساهم في عمليات الغش، فيؤكد اريلي " أن حوادث الغش لا تتأثر فقط بفرص ان يتعرض الشخص للامساك ! لكن الغش يزداد اذا قام مشارك اخر بالغش بصورة واضحة تماما!.. وهو مايسمى (تأثير النموذج- modeling effect) وعلى النقيض من النموذج الاقتصادي التقليدي، فان الغش لم يتأثر بحجم الجائزة النقدية!.. بالحقيقة عندما تم رفع مبلغ الدفع لكل جواب صحيح من 50 سنت الى 10 دولار فان الغش في الواقع قد اصبح اقل... اذن فان الناس سوف يمارسون الغش قليلا وليس كثيرا (فكروا في الغش في ضريبة الدخل..فان الكثير يتهرب منها).

ويبدو ان أريلي كان مبالغا الى حد ما في هذه النتيجة وكان ينبغي ان يشير الى اثر الجائزة النقدية على الغش من حيث تقليله لنسبة الغش لا ان يقول انها لاتؤثر تماما على عملية الغش وحيثياتها.

وحينما يتعرض اريلي الى الاسباب التي تقف وراء الغش والكذب والسرقة فانه يرى بان هنالك بعض الاسباب التي تؤدي الى انتاج هذا السلوك السيء، ومعظمها يتضمن نوعا من التبرير العقلاني!، وهو يقدم عبارات يمكن ان تمثل نماذج واضحة تنطق بها السن من يمارسون هذه الصفات...ومنها " لديهم مال كثير لذلك فان سرقة القليل منه سوف لن تؤثر " او، وهي الشكل الذي يقال في الجامعات المفتوحة،" الجامعات المفتوحة تجعل من السهولة الغش لذلك هي تستحق ذلك".

كما أن هنالك اسباب اخرى، بحسب اريلي و زملائه الذي ساعدوه في تجاربه، تؤدي الى الغش أذ يعود بعض منها الى الثقافة التي تربى عليها او عاش فيها هذا الشخص، التي تتقبل بيئته وثقافته هذا الغش والسرقة، فضلا عن التاريخ الشخصي للسلوك غير النزيه، وكذلك السرقة من اجل فائدة الاخرين، وهي " شكل اخر للتبرير العقلاني"، ثم يضيف اليها سبب مهم وهو " الافتقار الى المراقبة والاشراف" فالذي "لم يهتم كثيرا بحماية دراجته لا بأس من سرقتها " كما تقول احد الحجج التي يستخدمها السرّاق!.

الان كيف نستطيع منع مثل هذا السلوك السيء الذي يبدو انه اصبح شائعا في المجتمع؟

هل يمكن ان نضع غرامات على تلك السلوكيات الخاطئة؟ ام علينا ان نصوغ قوانين جديدة تجرم هذه الافعال؟

تلك هي الاسئلة التي يطرحها اريلي، وقد اعطى بحثه بعض الاجوبة عن هذه الاسئلة المهم، فأكد على ضرورة تدريب وتعبئة الناس للاخلاص والنزاهة، أذ يبدو أنه امرا يساعد على تحقيق الاغراض المنشودة... ومثال على ذلك... فالمشاركون الذين نذكّرهم بالقوانين الاخلاقية او الوصايا الدينية يغشون او يسرقون أقل !.

وهذا يؤيد الشيء الذي انا مؤمن به منذ زمن بعيد، كما يقول ريغو الذي تناول بحث اريلي باختصار مفيد جدا، اذ يحتاج الناس الى ان يتثقفوا على الاخلاق والنزاهة، ويجب علينا ان نذكّرهم بالقيم وفضائل النزاهة ! ويتم تشجعيهم دائما ! فيجب التأكيد على أهمية النزاهة والاخلاص والشخصية الجيدة من قبل الابوين والمعلمين والقادة...وذلك لان معظم الناس تجد من السهل جدا الانغماس في كذبة صغيرة ! وتخدع وتسرق ! وببساطة تقوم بتبرير سلوكها السيء.. فالتذكير المستمر ودور النموذج الايجابي يساعد في ذلك!.

البحث المذكور اعلاه يتعرض لثلاثة ظواهر مختلفة ويضعها في اطار واحد، وهذا مايمكن ان نعترض عليه قليلا، فالطالب قد يغش ولايجد باسا في ذلك ولا تأنيبا لضميره لكنه مستحيل من جانب اخر ان يسرق!..وقد يقوم شخص ما بالكذب لاسباب معينة لكنه من المستحيل ان يسرق وتحت نفس الاسباب او يجد مبررات اخرى للسرقة.

لذا اجد ان وضع خاصية السرقة مع الكذب والغش امر بعيد عن الحقيقة وواقع الانسان وسلوكياته التي نعترف تماما بأنها حيّرت العلماء والفلاسفة سواء في تعريفها او في بحثهم عن ماهيتها او في التعرض لخصائصها المختلفة ومايمكن ان تقوم به مستقبلا!.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 5/أيلول/2012 - 17/شوال/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م