عيونِك شوكةٌ في القلب توجعني...
وأعبدُها وأحميها من الريحِ
( محمود درويش يتغنى بفلسطين)
لا يفرق الناس عندنا منذ زمان بين العروبة والإسلام، وبين الدين
والدنيا وبين التراث والمعاصرة، وبين قضية تحرير فلسطين والوحدة
العربية، وبين العيش في نظام ديمقراطي وفرض الدولة سيادتها الكاملة على
أرض الوطن، بالرغم من الركوب المحفوف بالمخاطر الذي قاموا به منذ قرون
في قطار الاصلاح والتطوير والتحديث والانفتاح على الغرب المتقدم، بل
انهم قد جعلوا من اسلامهم طريقا لإثبات عروبتهم وتجذرهم في الملة
والوفاء للهوية الشرقية التي انحدروا منها ومن عروبتهم نبراسا لنشر
اسلامهم الحضاري في البلدان المجاورة لهم وقد لعب كل المنارات العلمية
والمساجد المعمورة دورا كبيرا في ذلك.
كما أنهم قد اتخذوا من دينهم الاسلامي ذريعة لفهم العصر وإصلاح
دنياهم وفلاح نمط معاصرتهم المدنية لزمنهم. ولذلك تبنوا بشكل مبدئي كل
القضايا الانسانية العادلة وساندوا حركات التحرر الوطني وانتموا عضويا
الى أمهات المعارك التي خاضتها الأمة ضد أعدائها بالفكر والساعد وبفداء
الوطن بالنفس والتضحية بالمال وناضلوا الى جانب المظلوم ضد كل معتد
أثيم.
وما يميز الثائر المنتفض عن غيره هو قدرته العجيبة على التمييز بين
الحق والباطل والموقف النضالي والموقف المتخاذل وانتصاره دائما الى
جانب الفريق الأول ورفضه البقاء على الربوة وطلب النجاة أو مناصرة
الموقف الثاني وتغليب المصلحة في مقابل التفويت في المبدأ. لقد رفعت في
الشوارع العربية أثناء مظاهرات صد العدوان على لبنان وفلسطين والعراق
ومصر وليبيا والجزائر وتونس وكل شبر محتل من الوطن السليب من الكرامة
والعزة جميع أعلام المقاومة والتحرير وصور الزعامات الوطنية وكتب
الفقراء أحلامهم والشعراء قصائدهم على الجدران.
ولقد رددت الجماهير الثائرة في شوارع المدن العربية شعارات متفائلة
وجريئة تجاه القضية الفلسطينية مثل: الشعب يريد تحرير فلسطين والشعب
يريد وحدة عربية واستقدمت الأحزاب السياسية ضمن نشاطاتها ومؤتمراتها
شخصيات فلسطينية بارزة من التيار الاسلامي والوطني كانت ممنوعة من
الدخول ومحاصرة في بلدانها ومنفاها ومتهمة بالتحريض على العنف والتشدد.
كما تم احياء يوم القدس العالمي في الأسبوع الأخير من شهر رمضان وأقيمت
عدة تظاهرات داعمة كالعادة لبيت المقدس.
لكن المستجد الخطير في السياق السياسي الانتقالي هو التراجع
الاعلامي الكبير الذي أصيبت به القضية الفلسطينية باعتبارها القضية
المركزية للعرب والمسلمين وتوجه اهتمام الناشطين بتبعات الربيع العربي
وحرصهم على اسقاط ما تبقى من الأنظمة الشمولية حتى ولو كان ذلك
بالتضحية بما تبقى من الدول الداعمة للمقاومة الوطنية أو المحسوبة على
جبهة الصمود والتصدي للمشروع الامبريالي والصهيوني. كما أن البعض تجرأ
على بعض الثوابت القومية وشكك في الركائز القومية وتقاعس عن الواجبات
الدينية تجاه شعب مظلوم ومحاصر وفاقد لكل مقومات الحياة الكريمة وخاصة
الأرض المغتصبة وحرية آداء الشعائر في أمن.
إن التنديد بمواقف حركة حماس السياسية من الربيع العربي من جهة
وحرق الأعلام التي ترمز الى المقاومة من جهة أخرى وترديد بعض الشعارات
التي تستهجن تدخل العرب والمسلمين في الشأن الفلسطيني والعودة الى تبني
خيار فلسطين شأن فلسطيني هو خدمة مجانية لدولة الكيان الغاصب ورفع
الدعم اللوجستي وتبرير للصمت الرسمي من قبل النظام السياسي المنبثق عن
انتفاضات الشباب العربي وتبني لديبلوماسية النعامة تجاه القضايا
المصيرية للأمة في ظرف جيو- سياسي بالغ الأهمية وفي ظل تزايد القمع
والتهديد والملاحقة للموطنين الفلسطينيين والتحرش بالمقدسات وتزايد نسق
الاستيطان.
ان الضمير الثوري العربي مطالب بأن ينتبه من جحوده ويخرج من صمته
ويصغي الى صرخات أطفال الحجارة وهم يخطفون من قبل جنود الاحتلال ويشهد
على آلاف المصلين يتسلقون الجدار العازل والمشقة التي يعانون منها لكي
يصلوا الى ساحات الأقصى وآداء صلاة الجمعة الرمضانية أو آداء صلاة
العيد.
لا ينبغي أن يقود الأمة كتلة تاريخية تتكون من أنظمة وحساسيات
مهادنة ومعدلة جينية في مخابر وحاضنات حقوقية غربية وراعية للاقتتال
الداخلي والحروب الأهلية والفتنة الطائفية وإنما يلزم أن تنبثق أنظمة
الحكم من الطبقة الثائرة وأن تستمد الدولة شرعيتها من الارادة الشعبية
وأن ينفتح الفضاء العمومي على التعددية الفعلية وأن يكون التنوع مصدر
اثراء وقوة ومنعة وأن يعمل على تحرير الأرض من الوصاية الأجنبية.
لقد ربحت الأحزاب المحسوبة على الاسلام السياسي أخيرا جل المعارك
الانتخابية في الوطن العربي واكتسبت شرعية شعبية عن طريق صناديق
الاقتراع وهي مدعوة الى التوفيق بين اعطاء تطمينات نحو القوى العالمية
والإقليمية والوفاء لمطالب الجماهير الثائرة في تحقيق السيادة الكاملة
الى جانب حق المواطنة. فمتى تستيقظ قوى الاسلام السياسي المناهض
للمشاريع المعولمة ويرفع من جديد شعار تحرير فلسطين ووحدة العرب
والمسلمين على جهة المبدأ والمثال اذا استحال ذلك على جهة الواقع
والتطبيق؟ وهل يتخلوا عن وصية محمود درويش شاعر المقاومة التي يقول
فيها: فلسطينية كانت... ولم تزل!؟
* كاتب فلسفي |