لا اعلم ما السبب الذى يدفع خبراء النظام العسكريين والاستراتيجيين
السابقين الى ادمان تضليل الرأي العام المصري، الى هذه الدرجة.
فرغم ان الجميع اصبحوا يدركون الان عمق ازمة السيادة المصرية في
سيناء بموجب معاهدة السلام، فان هؤلاء دأبوا على الدفاع عن كامب ديفيد
بمناسبة وبدون مناسبة، وعلى نفي وانكار المخاطر الجمة والمستمرة
الناشئة عن تجريد ثلثي سيناء من القوات والسلاح وبقاءها عارية امام آلة
الحرب و العدوان والتوسع الصهيونية.
ورغم انه من مصلحة مصر الآن، بل ومن مصلحة القوات المسلحة قبل غيرها،
تحرير سيناء من قيود المعاهدة، وهو ما يستدعى ان يتكاتف الجميع
للمطالبة بحتمية تعديلها على اضعف الايمان، والعمل على خلق رأي عام
مصري ضاغط يدعم المفاوض المصري امام المجتمع الدولي حين يطالب بهذا
التعديل، خاصة في ظل وجود حالة ثورية يمكن ان تكون في حد ذاتها عنصرا
ضاغطا فعالا.
رغم كل ذلك، يخرج لنا خبراء النظام ليخبرونا انه ليس في الامكان
ابدع مما كان، ففي حديث مطول مع اللواء محمود خلف مع جريدة الاهرام في
9 اغسطس الماضي قال بالنص ما يلى :
((هناك حالة سلام بأقل تكلفة , لايمكن لأي طرف أن يهاجم الآخر, وهي
تتيح لنا- ولهم- الالتفات للتنمية. ولا توجد قيود علي الحدود, لدينا
منطقة ( ج) ولديهم منطقة (د) وهما منزوعتا السلاح , وأغلبها مناطق وعرة
لا تحتاج قوات كثيفة....ولا حاجة لنشر قوات بها , المهم وجود قوات شرطة
مدربة ومدعومة من القوات المسلحة , لتمشيطها , أما زيادة القوات بكثافة
فستلجأ إسرائيل لطلب زيادة مماثلة علي الجانب الآخر من الحدود...)) وان
((اتفاقية السلام متوافر فيها كل ما نريد من عناصر الأمان, فنحن لدينا
في سيناء 25 ألف مقاتل و810 دبابات مجنزرة ومدفعيات وهذا هو الحد
الأدنى , وفي حالة إلغاء الاتفاقية سوف نقوم بمضاعفة العدد إلي أكثر
من250 ألف جندي , لتأمين سيناء التي ستتحول إلي منطقة عسكرية مغلقة,
وستتوقف المشروعات السياحية والتعدينية والخدمية والإنتاجية بها,
وسنلجأ إلي عملية حشد القوات المسلحة باستمرار ومن ثم مضاعفة التكلفة
)).
انتهي كلام السيد اللواء وانظروا معي كم المغالطات الواردة في حديثه
: اولها تجاهل ان المنطقة (د) داخل اسرائيل عرضها 3 كم فقط وليست
منزوعة السلاح وانما لإسرائيل ان تضع فيها 4000 عسكري حرس حدود مقابل
المنطقتين (ج) و(ب) في سيناء، الاولى منزوعة السلاح تماما والثانية
مقيدة بـ 4000 عسكري حرس الحدود فقط، وان المسافة التي تفصل اقرب دبابة
اسرائيلية عن الحدود المصرية هي 3 كم فقط، في حين ان اقرب دبابة مصرية
لحدودنا الوطنية على بعد 150 كم. وفي حالة اي عدوان صهيوني لا قدر الله
ستكون مالطا قد خربت.
ثم مغالطته الثانية عن مناطق الحدود وتضاريسها الوعرة التي لا تحتاج
الى قوات كثيفة وان تأمينها في حالة تعديل المعاهدة سيكون عالي التكلفة
وسيضرب السياحة والتنمية في سيناء....هكذا ! وان اسرائيل ستطلب قوات
مماثلة من ناحيتها.
رغم ان لإسرائيل بالفعل الحق بموجب المعاهدة في نشر اي عدد من
القوات بعد 3 كم من الحدود الدولية كما اسلفنا. كما انه في البلاد
المحترمة والمستقلة لا تتم مقايضة السيادة والامن القومي بحديث التكلفة
المادية! كما ان عن اي تنمية في سيناء يتحدث سيادته ؟ ناهيك انه ليس
صحيحا ان لمصر 850 دبابة في سيناء، بل المسموح لنا 230 فقط في المنطقة
(أ)، وأخيرا ان هذه المنطقة الوعرة هي ذاتها التي جاءنا منها عدواني
1956 و1967 بقوات "كثيفة "
***
كان هذا نموذجا واحدا فقط من السادة الاستراتيجيين، اما النموذج
الاسوأ والاخطر فهي تلك الحملة التي ادارتها الدولة لتغطية مذبحة سيناء
في صحفها ومنابرها الاعلامية بالتعاون مع اعلام رجال الاعمال، فبدلا من
التركيز على ان اصل الازمة هو انعدام السيادة العسكرية في سيناء والتي
تفتح الابواب لإعادة احتلالها او اختراقها او ولانتشار كافة انواع
الجرائم والمجرمين من الارهاب وتجارة المخدرات والخطف وتهريب الافارقة
والتجارة في الرقيق الاسود وتجارة الاعضاء البشرية وغيرها وغيرها...
فكل هذا لا يحدث الا في سيناء لسبب واحد ووحيد وهو انه ليس لنا هناك
لا جيش ولا سيادة، وقارن ذلك بباقي اقاليم مصر ومحافظاتها، فرغم حالة
الانفلات الأمني الخطيرة وجرائم القتل والخطف والسرقة وقطع الطرق الا
انه لا يمكن ان تتم جريمة بهذه الجرأة، جريمة العدوان المسلح المنظم
على القوات المسلحة او قوات الشرطة واسقاط كل هذا العدد من الشهداء الا
في سيناء. لماذا ؟ لانه ليس لنا جيش هناك، اكررها مرة أخرى.
نقول بدلا من ان يستغل الاعلام المصري هذه الجريمة النكراء لفضح
عيوب كامب ديفيد داخليا وخارجيا و يقود حملة وطنية ضد القيود العسكرية
والتدابير الامنية، ساعيا الى توعية الراي العام وتعبئته وحشده لخلق
ورقة ضغط شعبية تدعم المفاوض المصري في جهوده لتعديل المعاهدة او تمهد
لهذه الخطوة الحتمية مستقبلا، مستدعيا في ذلك كل الخبراء والخبرات
القانونية والدبلوماسية والعسكرية للحوار والبحث ودراسة سبل الخروج
الآمن من هذه القيود..
بدلا من ذلك اختارت حملة الدولة الرسمية، إبعاد الشبهة تماما عن
اسرائيل وعن كامب ديفيد، واختارت ان توظف الحدث للضرب في فلسطين
والفلسطينيين، في ترويج وتكرار لذات التوجهات والدعاية السوداء التي
كان ينتهجها نظام مبارك واصدقاءه في اسرائيل.
***
ليس هكذا تدار شئون الامن القومي، وليس هكذا تدير الشعوب حواراتها
الوطنية حول مشاكلها وازماتها الكبرى، ناهيك على انه وبصرف النظر عن
رفضنا الكامل لاستمرار سياسات الخنوع للصهاينة والخضوع للأمريكان التي
اتبعها مبارك، فان مثل هذه الحملات تندرج تحت باب التضليل والكذب
الاستراتيجي، الذى لم يعد مقبولا بعد ان تسبب على امتداد عقود طويلة في
استباحة سيادتنا وكرامتنا ودمائنا.
Seif_eldawla@hotmail.com |