الإمَامُ عَلِيّ... إغْتِيَالُ الجَسَدِ وَبَقَاءُ المَشّرُوع

محمد جواد سنبه

الكثير من الشّخصيّات في العالمَيّن القديم والحديث، نادت بالعدالة والحريّة والمساواة. لكن أفكار هذه الشّخصيّات، ظلّت مأسورة برقعة المكان ومحدوديّة الزمان، بمعنى محدوديّة العالميّة أو الانّتشار. بيّد أنّ شخصيّة الإمام عليّ (ع) مسكت أقطار الأرض وأزمّة الزمان. إضافة لذلك، لَمْ تتقادم هذه الشخصيّة بمرور الوقت، ولمْ تبلَ أفكارها على الإطلاق. لابلّ أثبت التاريخ، أنّ البشريّة بحاجة دائمة ومتجددة، لمنهج الإمام عليّ (ع)، وفكره وسلوكه واخلاقه، وورعه وجهاده، لتنهل الانسانيّة من النّمير العذّب لهذه الشخصيّة الرّساليّة المباركة.

بدأ الإمام (ع) حياته في أحضان الكعبة الشّريفة، وعاش روحانيّة الرّسالة، التي كان يتنفّسها من عبقّ النّبوّة الخاتمة. وكانت خاتمة حياته الشّريفة في محراب الوحدانيّة، عقيدةً وانتماءً. فقوله عندما أحسّ بحرارة السيّف الغادر، الذي هوى على هامته (فزتُ ورب الكعبة)، هو تأكيد لنهاية أخبره بها المصطفى(ص). هذه الخاتمة كانت بمثابة إمضاء إلهي، لقدَرٍ محتوم على شخصيّة، لمْ يستوعب الناس قَدْرها، ولم يفهموا دورها كما ينّبغي. ولمْ يستفدّ أيضاً من وجودها بعمّق، سوى ثلّة من اللذين ظلّوا يسقطون بعد الإمام (ع) شهداء في مذّبح الحريّة.

شَاهدَ أبو تُراب (ع) وهو لمّ يزلّ صبياً، جرأة طواغيت قريّش وهم يغرون صبيانهم، لإيذاء النبي(ص)، فكان ينقضّ عليّهم كالليّث الجسور، فيمسكهم واحداً واحداً، ولم يتركهم حتى يَقضِم آذانهم وأنوفهم فسموه (القَضِمْ). وظلّت هذه الرّوح الفدائيّة عند أبي الحَسَن (ع) مَعلماً واضحاً في كلّ أدوار حياته. إنّ أعداء عليّ صنعوا تاريخاً شاذّاً، وظلّ الإمام عليّ (ع) يكافح ببسالة منّقطعة النّظير، ليقوّم مسيرة الإنحراف. فأصبح (ع) منتجاً لأنّماط نضاليّة، كافحت الظّلم السلطويّ والثّراء الماديّ، اللذان أقيما على حساب الجياع، والمحرومين من ضعفاء الأمّة. وبقى المشروع الإصلاحيّ للإمام عليّ (ع) حياً في ضمير محبيّه، يقارعون به الظّلم والجوّر أيّنما وجد، فخلّد التاريخ ذلك المنهج الرساليّ، الذي سار عليّه الإمام (ع).

اختار الإمام منذ البداية أنْ يسير في المجتمع، وفق رؤيّة عمادها إقامة الحقّ، وإشاعة المساواة، والدفاع عن حقوق المحرومين. فكان يصّحر عن مشروعه ذاك بقوله (ع): (أَمَا وَ اَلَّذِي فَلَقَ اَلْحَبَّةَ وَ بَرَأَ اَلنَّسَمَةَ، لَوْ لاَ حُضُورُ اَلْحَاضِرِ، وَ قِيَامُ اَلْحُجَّةِ بِوُجُودِ اَلنَّاصِرِ، وَمَا أَخَذَ اَللَّهُ عَلَى اَلْعُلَمَاءِ، أَلاَّ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ، وَ لاَ سَغَبِ مَظْلُومٍ، لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، وَ لَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا، وَ لَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ، أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ). إذن منع الظّالم من كِظّته (إمتلاء بطنه)، واعطاء المظلوم ليسدّ سَغَبِه (جوعه)، هو مشروع الإمام الإنسانيّ. السّاعي لتحقيق حلم البشريّة للوصول إلى حالة التكافل المعيشي، وتحقيق عنصر العدالة والمساواة وتحرير الإنسان من رقّ الأزمات، التي تُذلّ قَدْره وتُهدر كرامته.

هذا المشروع الرّسالي النبيلّ، صنع ما يكفي من المحبين لعليّ (ع)، كما صنع الكثير من الأعداء. يذكر الشهيد مرتضى مطهري في كتابه (محمد وعليّ/ص 306) مايلي: (إنّ التاريخ يعرف الكثيرين ممّن لا شهرة لهم، ضحّوا بأرواحهم في سبيل حبّ عليّ (ع).. فأين نجد هذه الجاذبية في العالم؟ لا أحسب أنَّ لها شبيهاً. وإنّ لعليّ كذلك من الأعداء من ينقلب حاله عند سماع اسمه. لقد مضى عليّ كفرد، وبقى كمدرسة تجتذب إليها جماعات وتطرد جماعات.)(انتهى). الإمام عليّ (ع) لم يضع يوماً مّا، مصلحته الشخصيّة في أيّ جزء من اهتماماته، فكان يتصرف وفق فلسفة صارمة، تُقدّم مصّلحة المجّتمع على جميع المصالح الأخرى.

هذا الموقف الصّلب الذي لا ينثني ولا يلين، نجده في ثنايا تصريحاته (ع) الخطابيّة، التي كان يكاشف بها الناس، وإشاراته التي كان يوجهها كرسائل، تُخبر عن إصراره بالتمسك بهذا الموقف. يذكر ابن عباس: (دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ بِذِي قَارٍ وَ هُوَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ فَقَالَ لِي مَا قِيمَةُ هَذَا اَلنَّعْلِ فَقُلْتُ لاَ قِيمَةَ لَهَا فَقَالَ (ع) وَاَللَّهِ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلاَّ أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلاً.). إذن القضيّة في مفهوم الإمام (ع)، هي التأكيد على تطبيق الحقّ ومنع تطبيق الباطل، وخارج هذا المنظور فالمسألة لا قيمة لها، في نظر الإمام على الإطلاق.

لقدّ شكّل المجّتمع، هدفاً استراتيجيّاً عند الإمام عليّ (ع). وهدفه يحمل مقصداً غائيّاً، نابع عن وعي عميق، بأنّ المسؤوليّة ليست فرصة للإثراء، على حساب آلام النّاس. كما أنّها ليست وجاهة ومرتبة، للتعالي والترفّع على الآخرين. إنّها أمانة، فإذا صلح الراعي صلحت الرعيّة. يقول الإمام (ع): (ووالله لأُسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جورٌ إلاّ عليّ خاصَّةً). إذن الهدف النّهائي عند الإمام، سلامة وصلاح أمور المجّتمع، فإذا صلحت وسلمت، سلم الإمام من تبعات ذلك، دون النظر لما يلحق به على وجه الخصوص. المهم عند الإمام عليّ سلامة المجتمع، لا سلامته الشخصيّة. هذا المنطق غير مألوف، في نظر اللذين يتقلدون زمام المسؤوليّة، سابقاً ولاحقاً أيضاً.

إنّ إصرار الإمام عليّ (ع) على تطبيق ما يؤمن به، على أرض الواقع، ألّب عليّه الأعداء اللذين تضرّرت مصالحهم، بسبب إصرار الإمام (ع)، على تطبيق تلك المبادئ. لذا تشكّلت أربع قوى مناهضة للإمام هي:

1. اصحاب الثارات، وهم الفئة التي ظلّت حاقدة على الإمام (ع) لتمسكها بتقاليد الجاهليّة. وكانت تطلق على الإمام (ع) لقب (قاتل العرب).

2. الحاسدون، وهم الجّماعة اللذين كانوا ينظرون، لعلاقة النبي (ص) مع ابن عمه (ع) بعين الحسد والحسرة. لمنزلة الإمام الرفيعة عند الله تعالى ورسوله (ص)، وكثرة فضائله ومناقبه وشجاعته وبسالته.

3. حزب طلاّب السلطة والمصالح الخاصّة، وعلى رأسهم بني أميّة.

4. الخوارج، وهم الطّبقة الجّاهلة المتطرّفة، التي فهمت الإسلام على أنّه مجرّد نصوص جامدة، لا تتحمل التفسير ولا التأويل ولا النقاش ولا البحث.

 لقد حرص الإمام عليّ (ع) على صيانة حريّة التعبير عن الرأي، باعتبارها جزءاً من حريّة المجتمع. وإنّ كانت هذه الحريّة ستُستخدَم ضدّ الإمام شخصيّاً، لكنّ الإمام أعطى فسحة كافية لهذا التعبير. صاح (الخريت بن راشد)، أحد المتمردين على الإمام (ع) بأعلى صوته وأمام الملأ: (لا والله لا أطيع أمرك، ولا أصلي خلفك، و إني غداً لمفارق لك. فقال له الإمام عليّ (ع): ثكلتك أمّك إذاً تنقض عهدك، وتعصي ربك، ولا تضر إلاّ نفسك. فقال رجل للإمام (من أصحاب الإمام): لمَ لا تأخذه الآن، قبل أنّ يخرج، ويفسد في الأرض؟. فقال الإمام (ع): (لو فعلنا هذا بكل من يُتّهم لملأنا السّجون). أكثر من ذلك، سَئل رجل الإمام عليّ، وهو في مسّجد الكوفة بمسألة فقهيّة، فأجابه الإمام بسرعة ودقّة، فصاح أحد الخوارج الجالسين في المسّجد: (قاتله الله كافراً ما أفقهه)، فأراد بعض الأصحاب أنْ يؤدبوه، فمنعهم الإمام (ع) وقال: (رويداً إنّما هو سبّ بسب، أو عفو عن ذنب). فسلام على أبي تراب (ع) يوم ولد ويوم استشهد، ويوم يبعث حيا، والعاقبة للمتقين.

* كاتب وباحث عراقي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 11/آب/2012 - 22/رمضان/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م