حالة الفشل والشلل التي تصيب القضية الفلسطينية بكل مكوناتها
السياسية والاجتماعية والاقتصادية والجهادية ليست قدرا من السماء ولا
تعود لإسرائيل وأمريكا فقط، بل تتحمل النخب الفلسطينية المسؤولية
الأكبر.
لقد أدركت إسرائيل وكل أعداء الشعب الفلسطيني صعوبة كسر إرادة
المقاومة عند الشعب من خلال المواجهات العسكرية، فلجأت إلى أسلوب خبيث
ألا وهو اختراق صمود الشعب من الداخل من خلال إفساد النخبة القيادية
والسياسية، ويبدو أن هذا النهج يحقق نتائج مبهرة للعدو.
فساد النخبة السياسية والاجتماعية والاقتصادية أدى لفساد الحياة
السياسية ولفشل خياري السلام والمقاومة، الأمر الذي يتطلب أن تذهب
الدراسات والأبحاث في الشأن الفلسطيني لدراسة النخب الفلسطينية من حيث
تشكلها وبنيتها الداخلية وعلاقاتها الخارجية ومصادر تمويلها وهو ما
يتطلب شجاعة وتحررا من رِهاب السلطة ورِهاب قطع الراتب، ومع أنني سبق
وأن تناولت هذا الموضوع في مقالات ودراسات سابقة منها المقال المعنون:
( من يجرؤ على الكلام من الفلسطينيين: جدلية الخطاب السياسي والسلطة
والمكان) إلا أنه يبدو أن الانقسام يعزز يوما بعد يوم ثقافة الخوف
ويزاد من القيد على حرية التعبير.
لقد سبق وأن انتقدنا السلطة والمنظمة وتنظيم حركة فتح وممارساتهم
ودفعنا بصمت ثمن قولنا الحقيقة ولم ولن نتراجع عن مواقفنا، وانتقدنا
نهج وسلوك حركة حماس وتعرضنا بسبب ذلك لكثير من العنت والمضايقات
تحدثنا عن بعضها وسكتنا عن أخرى لأننا لا نريد الظهور بمظهر البطولة.
ولكن ليس من الضروري في كل مرة نكتب فيها عن الحالة الفلسطينية أن
ننتقد الطرفين – فتح وحماس –، كما أن الموضوعية العلمية لا تعني الوقوف
دائما نفس المسافة بين الطرفين المتصارعين، لأن الساحة السياسية ليست
فقط صراعا بين شعارات وأيديولوجيات، وليست منقسمة بين شياطين وملائكة،
بل فضاء للصراع بين فاعلين سياسيين حقيقيين مفروضين على الحياة
السياسية ولا يمكن تجاهل ممارساتهم وسلوكهم سواء اتجاه الشعب أو اتجاه
بعضهم بعضا أو اتجاه إسرائيل والعالم الخارجي.
كما أن الموضوعية لا تعني عدم الانحياز بالمطلق، فالكاتب حتى وإن
كان غير منتمي لحزب من الأحزاب يجب أن ينحاز لفكرة أو رأي أو سلوك أو
للمصلحة الوطنية أينما تجلت أو تم التعبير عنها من أي حزب أو جماعة.
كلمة مستقل الذي يطلقها على نفسه كاتب أو مثقف أو جماعة من الجماعات
التي تشتغل في السياسة، كلمة صحيحة إن كان المقصود بها عدم الانتماء
لحزب من الأحزاب القائمة، ولكنها كلمة غير دقيقة وقد تكون مخادعة إن
كان المقصود بها غياب الرؤية والموقف السياسي، لأن كل من يشتغل
بالسياسة يجب أن يكون له رؤية وموقف مما يجري في الساحة الفلسطينية.
عندما يكتب الكاتب مقالا محدود الصفحات لا يكون أمامه إلا التركيز
على حدث أو قضية جزئية عليه منحها حقها من التحليل والتوضيح، وأن يركز
على هذه القضية أو الإشكال لا يعني عدم وجود قضايا ومشاكل أخرى.
الانقسام أوجد إشكال عند الكاتب الفلسطيني الملتزم بقضايا الوطن.
الكاتب الذي يعيش في غزة ويكتب عن مشاكل غزة ومعاناة أهل غزة فقط يتم
اتهامه من طرف حركة حماس بأنه منحاز لفتح ولسلطة رام الله لأنه لا يكتب
عما يجري في الضفة الغربية، وكأنه مطلوب منه إن انتقد انتهاك الحريات
في غزة عليه أن يتحدث في نفس الوقت عن انتهاك الحريات في الضفة، وإن
تحدث عن الفساد في حكومة وسلطة غزة فعليه أم يكتب عن الفساد في سلطة
الضفة. تجاهل الكاتب الذي يعيش في غزة ويكتب عن غزة لما يجري في الضفة
قد لا يكون مقصودا بل يعود غالبا لأن الكاتب في غزة شاهد عيان ويعيش
الحدث وملم ومطلع على ما يجري في غزة، بينما يسمع فقط عما يجري في
الضفة، والعكس صحيح بالنسبة للكاتب الذي يعيش في الضفة. هذا فيما يتعلق
بالكتابة عن الأحداث اليومية ولكن الكاتب المفكر أو صاحب الرؤية
الإستراتيجية فعليه عدم الاقتصار أو الانجرار وراء الأحداث اليومية بل
عليه رؤية القضية في شموليتها وأبعادها الإستراتيجية الوطنية
والإقليمية والدولية وهذا لا يكون إلا من خلال كتب أو دراسات موسعة.
ولكن يبدو أن الكاتب حتى وإن كان موضوعيا أو حاول أن يكون كذلك متهم
دائما لأن هناك من لا يريد للشعب أن يعرف الحقيقية ويكشف المستور. حتى
لو انتقد الكاتب الطرفين فسيجد إما من يتهمه بالجبن وغياب الموقف
وإمساك العصا من الوسط، أو سيتحالف عليه الطرفان وستتم محاربته سواء
بالتجاهل المشترك له من الطرفين وصحفهم ومواقعهم وفضائياتهم، أو
بالتضييق على معيشته وتحركاته في السفر وفي العمل وبالإساءة إلى سمعته
أو التقليل من شانه في كل مناسبة يُذكر اسمه فيها.
بعض الكُتاب، الذين أفرزهم فضاء إعلامي سياسي بات يضم كل من هب ودب
ممن يطلقون على أنفسهم اسم الكُتاب والمحللين السياسيين، كتاب وصحفيون
ومحللون سياسيون وإستراتيجيون خلقتهم نخب السلطة والمال ووضعت تحت
تصرفهم فضائياتها وصحفها ومواقعها الالكترونية الخ، يجيدون التلاعب
بالكلمات حيث يكتبون ولا يكتبون، يقولون ولا يقولون، يلفون ويدورون حول
الموضوع دون أن يتخذوا موقفا أو رأيا، وهم في ذلك يخفون جهلهم بالسياسة
وفي نفس الوقت يكسبون استحسان حماس وفتح والسلطتين والحكومتين في نفس
الوقت، فيكسبون رضاهما وهباتهما وتسير أمورهم سلسلة عند الطرفين.
كان لنا اتحاد كتاب واتحاد صحفيين واتحاد حقوقيين واتحاد فنانين
الخ، فأين هذه الاتحادات؟ وأين الكتاب والمثقفون والصحافيون مما يجري؟
ألم يصبح غالبيتهم جزءا من حالة الانقسام وثقافة الكراهية؟ ألم يتم
إفساد الكثيرين برضاهم وقناعتهم؟ أو بإكراه لقمة العيش والمسؤولية عن
عائلة؟.
عندما يضيع كل شيء ويصبح الوطن مستباحا من الأعداء ومن نخب وطغم
تتعيش على أنقاض الوطن، تبقى الكلمة الحرة والمثقف الحر القلعة الأخيرة
التي تحفظ للأجيال القادمة ذاكرة الوطن وثقافته وهويته الوطنية.
Ibrahemibrach1@gmail.com |