مما لامشاحة فيه ان سلوكيات الفرد نابعة من اسلوب تربيته ومناهج
دراسته ومناخات بيئته وسعت ثقافته في ابعاد رسم خارطة بنيته العقلية
ومقدرته الفكرية وعمق معرفته وصحيح تحليلاته من خلال تعامله مع افاق
المعرفة وفضاء الفنون برحابة صدر واحترام وتقييم لنتاج العقول وقرائح
العلماء ومبتكرات المبدعين..
حيث تبرز العبقريات والاجتهادات والابداعات والعطاءات المعرفية في
رحاب ارهاصات التلاقح العلمي والفكري والثقافي في الاجواء الحضارية
المتنوعة والثقافات المتعددة حيث الغنى والثراء الثقافي والفلسفي
والأدبي والاسلام يؤكد على التفكر في ملكوت السموات والارض ويحض على
التعقل واعمال العقل وصحيح التحليل..
لكن تبقى الاشكالية الكبرى في الامة الاسلامية بانطوائها على ذاتها
واستغراقها بالتراث والانغلاق الذهني والتحجر الفكري والتصحر المعرفي
ساريا منذ هيمنة المذهبية الاصولية الحنبلية على الذهنية الاسلامية
بإلغاء العقل ومنع الاجتهاد ومحاربة العلوم العقلية في محيطنا الإسلامي
والعربي وشواهده كثيرة وغائرة في مجتمعاتنا ولحد الان، وتستغرق حتى
النخب والرواد ويشد ازره بشدة التطرف المذهبي والتعصب البدوي حتى من
يدعى العلم والثقافة والعصرنة بحيث لايقرأ فكر وعطاء الاخر لجعله في
خانة (كفر) بل وحتى الإسلامي لاختلاف المذهب فنلاحظ هؤلاء ليس فقط يحجم
عن مطالعتها بل والتقرب منها اتباعا للعصبية قال تعالى: (وإذا قيل لهم
تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا آباءنا أو
لوكان آباؤهم لايعلمون شيئا ولا يهتدون) المائدة: 104!!
حيث تظهر منظومة الارهاب الفكري والعقائدي عادة بتولي شخصية متشددة
جاهلة غير متعلمة لمقاليد السلطة فتفرض على الناس مفاهيم خاطئة او
متخلفة فتستقطب رعاع الامة وطغام الناس لأهوائها وتدفعهم باتجاه مصادرة
الفكر وقمع الاجتهاد والغاء العقل وشن حروب قمعية شرسة ضد الثقافة وقيم
التحضر كما فعل الخليفة الجاهل الماجن (المتوكل) العباسي بتقريب
المتطرفين الحنابلة وافساح المجال ليعيثوا الارهاب في الحياة الثقافية
المزدهرة في حاضرة الدنيا بغداد (العصر الذهبي) ويحرقوا المكتبات
العامة والخاصة ويضطهدوا العلماء ويقمعوا المفكرين..
وماحدث في تلك الفترة المظلمة لم يكون خارج من فراغ بل كان له جذور
وامتدادات في التاريخ الإسلامي حيث نشأ هذا المنهج المتخلف منذ منع
رواية الحديث زمن الخليفة الاول واشتدادها في عهد الخليفة الثاني حيث
كان لهذه الفعلة تداعيات خطيرة، بطمس الحقائق وتزوير الوقائع وتشويه
المعالم، من جراء عقاب عمر باشهار الدرة في وجه كل من يروى السنة او
تدوين الحديث بحجج واهيه حيث كان سببا في افشاء الكذب وكثرة الوضع
والوضاعون والتدليس والمدلسون والتلاعب بالسنة الشريفة وفق اهواء
السلاطين وائمة المذاهب ووعاظ السلاطين ومرتزقة المعممين فعمت الفوضى
ضاع الكثير من السنن واختلف في الاحكام.
والمعلوم ان الاسلام لم يحارب العلم بل جاء ليس فقط مبشرا به بل اكد
عليه والزم به وحث على طلبه ولو كان في (الصين) في حقبة يعد من العجب
ان يغادر المسلم مضارب خيام قبيلته ولسعة فضاء انفتاح الاسلام وتسامحه
الزم بهضم كافة الثقافات والفلسفات (الحكمة ضالة المؤمن يأخذها انا
وجدها)، كذلك لم يكن ضد الحضارات وكان يدعو الى الحوار بالحكمة
والموعظة الحسنة والعفو والسماحة حتى الاحترام مع الاعداء المشركين حيث
جعل عبادتهم للأوثان (دين) قال تعالى: (لكم دينكم ولى دين)الكافرون: 6.
وكان الرسول (ص) شخصيا يحاجج ويناظر الآخر ويلزمه الحجه وبكل
احترام لمزاعمه ومقولاته كما في المباهلة مع نصارى نجران قال تعالى:
(قل تعالوا ندعوا..)..لكن الخليفة عمر بن الخطاب اتخذ مسارا اخر نابعا
من سلوكياته المتشددة وثقافة بيئة واطار معرفته في فهمه للامور التي
لايجب ان نطالبه فوق ما لديه او نجلله ونحمله فوق طاقته او نرسمها اوسع
من افاقها ولكن بشرط بتجريدها من هالات القدسية الزائفة او نرفعه فوق
البشر، فالمعروف عن عمر كما تذكر مصادر السلف المختلفة انه كان فظا
غليظا شديد التعصب ومنشد الى بيئته وهو صاحب (الدرة) التي طالما اوجع
بها صدور الصحابة وظهورهم ولم يسلم من عنف عنجهيته من التعدي على
المخدرات من النساء حتى انه لطم ابنة صاحبه ابى بكر ففقأ عينها، تؤكده
مدونات السنة، ونتيجة تلك السطوة المرهبة غلب على التشريع ونصوص
التنزيل اراء عمر فتفشت البدعة بمزاعم وتأويل زائف (نعمة البدعة) وهذا
ما حدى بحبر الامة الى تنبيهها وتحذيرها من مغبة ترك السنة والاخذ
باقوال عمر، حيث اشتهر لفظ أثر ابن عباس (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من
السماء أقول لكم قال: قال رسول الله (ص) وتقولون قال أبو بكر وعمر، وقد
ذكره بهذا اللفظ ابن القيم في زاد المعاد ج2 ص59) وذكره الشيخ محمد بن
عبدالوهاب في كتاب التوحيد باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما
أحل الله وتحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أربابا من دون الله وقد ورد
بلفظين (أراكم ستهلكون اقول قال رسول الله (ص) وتقولون قال أبو بكر
وعمر) كما في مسند أحمد ج1ص337 ولفظ (والله ما أراكم منتهين حتى يعذبكم
الله أحدثكم عن رسول الله (ص) وتحدثونا عن أبي بكر وعمر)، انظر زاد
المعاد لابن القيم ج2ص206، وقد نبه صالح العصيمي إلى ذلك في كتابه الدر
النضيد في تخريج كتاب التوحيد ص 129.
فذا كان منهج ابن الخطاب في التعامل مع السنة النبوية وشيوخ الصحابة
على هذه الشاكلة فماذا تتوقع ان يكون تصرفاته وعنجهيته مع الآخر مهما
بلغ من الحكمة والمعرفة، فمصادر السلف تذكر ان ابن الخطاب عندما يذكر
له احد الحكماء او العلماء من ابناء البلاد المفتوحة كان يأمر بنهيه عن
ممارسة نشاطه بحجج انها بدع وكفر ومخالفة للقران فاذا استمر في مشواره
سجن وعذب وربما يقتل كما كان يأمر بحرق الكتب العلمية والادبية
والفلسفية بحجة اصطدامها بتعاليم الاسلام كما حدث في فتوح العراق
والشام ومصر، وتبقى الطامة الكبرى التي جلبت على المسلمين جام غضب
العلماء والمثقفين طوال العصور بما ارتكبه الخليفة عمر من حماقة كبرى
بحرق كنوز العلم والفكر والفلسفة والحكمة والطب والفلك وغيرها عندما
امر عمرو ابن العاص بحرق مكتبة (الاسكندرية) الكبرى التي كانت تحوى
عشرات الالاف من الكتب والواح البردي ويرجع تاريخها الى الاف السنين من
العطاء الانساني العلمي في كافة العلوم والفنون، وهذا مايذكره المؤرخون
العرب مثل القفطي في انباء العلماء باخبار الحكماء (تاريخ الحكماء)
والبغدادي في الافادة والاعتبار والملطي في مختصر الدول ويقولون ان
عمرو بن العاص حرق مكتبة الاسكندرية بناء على امر عمر بن الخطاب !
كما تؤكد المصادر التاريخية ان عمر بن الخطاب أمر بحرق مكتبة فارس،
أي مكتبة ملوك الفرس التي كانت ولا شك تحتوي على ملايين الكتب وفي
مختلف العلوم والآداب والفنون !
جذور الارهاب الثقافي والمعرفي في الاسلام
مما لامشاحة فيه ان جذور التخلف والبداوة والغلظة الجاهلية ظلت
سارية في المحيط الاسلامي خصوصا في سنينه الاولى حيث كان المنهج في
التعامل مع شرائح الحكماء والعلماء والفئات المفكرة التي تحب الاطلاع
وتعشق الفكر والمعرفة وترغب بمعرفة ما عند الامم من تراث وحضارة في
البلدان المفتوحة لاجل تحصين الرسالة من الهرطقات والرد على الاشكاليات..
لكن تصدي السلطة لهم بكل حزم وشدة اوقف مد التلاقح والاخذ والتعرف على
تلك الافكار والفلسفات وهذا ماتؤكده بعض هذه الروايات:
فان من حجر على الحديث الشريف ومنع تدوين السنة بشكل صارم، ولايعيره
ادنى اهتمام وهو النص المقدس الثاني للتشريع بعد القران الحكيم، وهو
المفسر والشارح والموضح، فلا يستغرب ان يقمع فكر الاخر ويحرق مدونات
العلوم يقول خليل عبد الكريم في الاسلام بين الدولة الدينية والمدنية
ص114(كان عمر بن الخطاب يحجر على الصحابة رواية الحديث عن رسول الله
(ص) وهذه مساله معروفة كتب فيها كل من دون شيئا من تاريخ السنة-لما قدم
قرظه بن كعب وهو صحابي إلى الكوفة قالوا: حدثنا، قال: نهانا عمر عن
الحديث) انظر جامع بيان العلم رواه الدارمي والبيهقي في سننهما، ومن
نهاهم عمر عن الحديث عن رسول الله (ص)عبد الله بن مسعود، وأبو الدرداء).
المشهد الاول: في قمع الفكر الحجر على العلم ومصادرة العقل يقول نفس
المصدر السابق: اورد السيوطي في (صون المنطق والكلام -الواقعة الأتية -
(قدم على عهد عمر ابن الخطاب رجل يقال له (صبيغ) فجعل يسأل عن متشابه
القران فارسل إليه عمر وقد أعد له عراجين النخل فقال من انت؟ فقال أنا
عبد الله صبيغ، فاخذ عرجونا من تلك العراجين فضربه حتى دمي راسه ثم عاد
له ثم تركه حتى برأ فدعا به ليعود فقال: إن كنت تريد قتلي فأقتلني قتلا
جميلا، فأذن له إلى أرضه وكتب الى ابي موسى الاشعري ألا يجالسه أحد من
المسلمين، وفي رواية أخرى أن عمر كتب إلى اهل البصرة ألا يجالسوا صبيغ
ولا يبايعوه وإن مرض فلا يعودوه إن مات فلا يشهدوه)!!!
هذا الخبر ورد بروايات متعددة متقاربة في العديد من كتب الحديث
اخرجه الدارمي في السنن وابن عبد الحكم والخطيب البغدادي وابن عساكر
وابن الانباري واخرجه الاسماعيلي نقلا عن حياة الصحابة للكندهلوي
ج3ص170و171 واورد مالك في الموطأ ص282.
ويقول معقبا: وهي واقعه غنية بأكثر من دلالة ومن ثم فهي مستغنية عن
اي تعليق او تعقيب، وكل ما نقوله بشأنها: إن كل جريرة (صبيغ) انه اراد
أنه يسأل عن الآيات المتشابه في القران الكريم، فكان جزاؤه القرع
بالعراجين على ام راسه حتى دمي وتكرر ذلك معه حتى صاح مستغيثا طالبا
قتلة جميلة ثم مقاطعته حيا وميتا !!!.
وهو يثير العديد من الاسئلة منها:
1- ما الذي ارتكبه صبيغ حتى يوقع عليه عمر تلك العقوبات القاسية
لخارجة عن اطار الحدود؟
2- على أي سند من القران والسنة اعتمد عمر في انزال تلك العقوبات؟
3- لماذا تعمد عمر ضرب صبيغ على ام راسه حتى ادماه مرات حتى استغاث
وطلب منه ان يقتله قتلا جميلا ولماذا لم يضربه على يديه او رجليه ان
اراد تأديبه؟
4- اليس عمر اراد من ضربه على راسه لان به عقله الذي دفعه للتفكير
في متشابه القران؟
5- لماذا لم يلجأ ابن الخطاب وهو المكنى بالفاروق الى العدل والرحمة
بإقناع الرجل بالحسنى بخطأ سؤاله على فرض ان السؤال عن متشابه القرآن
خطأ؟
6- لماذا منع الناس من مجالسته حتى أنه لو أقبل على مائة لتفرقوا
عنه؟
7- ولماذا كل هذا التشدد والعقوبة المفرطة لما اراد ان يستفهم
ويسأل؟
8-هل جريرة صبيغ الكبرى انه صوب ناحية القرآن والامر في بدايته
الاولى.؟
9-ألا يقطع هذا الخبر بتناقض (التفكير فريضة إسلامية) وتفكير ساعة
خير من عبادة الف سنة؟
10- فاذا كان ذكر مقولات الاخرين او الاستفسار عن مفاهيم الدين حرام
وكفر اذن لماذا مكن ابن الخطاب كعب الاحبار اليهودي ان يقص ويروي
اساطير الاسرائيليات في المسجد النبوي ويمنع من تدوين ونشر الحديث
ويمنع الصحابة من بث الحديث او التحدث بالحديث والسنة..؟!
المشهد الثاني: ان عمر بن الخطاب ضرب رجلا اسمه (العبدى) ثلاثا لانه
نسخ كتب دانيال ثم قال له: فانطلق فامحه بالحميم والصوف الابيض ثم
لاتقرأه انت ولاتقرأه أحدا من الناس فلئن بلغني عنك أنك قرأته او
أقرأته أحدا من الناس لانهكتك عقوبة)، اخرجه ابو يعلي نقلا عن كتاب
حياة الصحابة للكندهلوي ج3ص124، وفي خبر اخر يدل على محظورية قراءة
كلام وكتب الاخرين ولعل هذه الاخبار هي الجذور التاريخية لما يعرف لدى
المفكرين الاسلاميين المحدثين بـ(الغزو الفكري او الغزو الثقافي):
(اتى عمر بن الخطاب رجل فقال يا امير المؤمنين إنا لما فتحنا
المدائن أصبت كتابا فيه كلام معجب قال: أمن كتاب الله قلت: لا فدعا
بالدرة فجعل يضربه بها) المصدر السابق ص125 هنا نجد ابن الخطاب يضرب
الرجل دون ان يطلع على الكتاب الذي حدثه عنه او فحواه وان كان فيه
كلاما معجبا ويقدر عمر ماذا يحتوى الكتاب وما على المسلم ان لا يقرأ
سوى كتاب الله القرآن.
لقد منع عمر للمثقفين والمفكرين المنفتحين من الاطلاع على الافكار
وثقافات الاخرين بل امتد ذلك الى المسلم الذي يفتح مخه ويقرأ القران
قراءة واعية بتدبر ثم يسأل عما غمض عليه منه.
hilal.fakhreddin@gmail.com |