شبكة النبأ: يعود تعرفي على الرقابة
والرقيب الى سنوات السبعينات، وكنت مداوما على قراءة مجلة العربي
الكويتية، مثل غيري من العراقيين، لرخص ثمنها ولاحتوائها على الكثير من
الزاد الثقافي والمعرفي..
حصلت يومها على احد الاعداد، وكانت احدى صفحاته الداخلية مقطوعة
بشكل متعجل، فقد بقي منها طرفها الملتصق بالمجلة..
كان الموضوع يحمل عنوان (اسطورة الحاكم الذي لا يعرف) للكاتب المصري
فؤاد زكريا.. لازلت اذكر الموضوع وكاتبه رغم مضي تلك السنوات الطويلة..
محتوى ما بقي من الموضوع، الذي اجتث الرقيب احدى صفحاته، يتحدث عن
الحاكم المستبد، الذي يروج له اعوانه اسطورة مفادها انه لا يعرف ما
تفعله حاشيته، وما يرتبكون من موبقات تؤثر على سمعته كحاكم عادل.. وقد
انتشرت في تلك الفترة مثل هذه الاساطير في العراق، فكثيرا ماكنت تسمع
من يقول (هو صدام شمدريه) وهي اسطورة استفاد منها السيد النائب وقتها،
قبل ان يستولي على مقدرات العراق ويتفرد بالسلطة، وقد عملت تلك
الاسطورة على تنزيه صورته امام العراقيين، وحققت له ذلك الالتفاف
الجماهيري الذي كثيرا ما يتردد عبر هتافات (بالروح بالدم نفديك يا صدام).
في سنوات التسعينات، وكنت اتردد بانتظام على مكتبة (داية امين) اي
العم امين في كركوك حيث كنت اسكن، وهو تركماني شيعي، وجدت كتابا للمصري
مصطفى محمود، مرميا مع كومة من الكتب على الارض خارج المكتبة.. كان
عنوانه (اكذوبة اليسار الاسلامي) وكان ثمنه على ما اذكر خمسون دينارا،
اشتريته واخذت بتقليب صفحاته، وقد تفاجأت من حجم الهجوم الذي يشنه
الكاتب على البعث السوري والبعث العراقي، اخبرت صاحب المكتبة بذلك، لم
يهتم على اعتبار انها النسخة الوحيدة لديه وقد اصبحت من نصيبي.
اذكر اننا مجموعة من الاصدقاء كنا نفاخر بعضنا في حصولنا على اي
مطبوع اجتثت منه الرقابة بعض الصفحات، او انه ممنوع من التداول، بسبب
اسم الكاتب او موضوع الكتاب.. وكنا في نفس الوقت نخشى من المداهمات
التي قد تحدث لبيوتنا تحت طائلة اي سبب تافه، وكنا حريصين على اخفاء
الكتب الممنوعة، مثلما حدث حين اشتريت مجموعة من الكتب للخميني وغيره
من مراجع الشيعة.. وحتى كتب الادعية مثل مفاتيح الجنان وضياء الصالحين،
كنا نوصي عليها من البعض الذين امتهنوا شراء وبيع الكتب.. وكنا نسمع
الكثير من قصص الاعتقال بسبب كتاب او قصاصة ورق، مثلما حدث مع احد
الجنود الذي كان يحمل في جيبه قصاصة ورق سجل عليها فقرة اعجبته من احدى
روايات نجيب محفوظ.. وقد ضاع في غيابة الجب حتى فقد عقله..
الرقابة والرقيب كانت مستشرية في سنوات البعث العراقي، مثلما هي
مستشرية في الكثير من دول العالم، وخاصة منها ذات الانظمة الديكتاتورية
والشمولية، رغم اختلاف الفلسفات والمرجعيات الحاكمة.
هذه الرقابة اخذت بالتراجع بعد جملة من التطورات السياسية
والتكنولوجية، فالمعسكر الاشتراكي قد انهار، وانهارت معه الكثير من
المنظومات السياسية والثقافية، وظهرت الفضائيات المتعددة، بكافة
الالوان والاشكال، وظهر هذا الغول المخيف الانترنت، الذي فتح الحدود
والافاق امام سيل تدفقه الذي لا تنفع معه اي رقابة، واصبحت الرقابة
جزءا من الماضي السحيق او هكذا يفترض، الا ان الكثير من العقليات بقيت
على حالها لم تتغير، وهي تستمتع بفعل المراقبة والمعاقبة ان اقتضت
الضرورة، ضرورة الخنق والمصادرة والمنع.
كل يوم يتجدد الجدل حول الرقابة في بلداننا العربية، وخصوصا في شهر
رمضان المبارك، حيث مهرجان المسلسلات الهادر بعد ساعة الافطار.. عادة
هناك معسكران، معسكر المانعين، (سلطات دينية – سلطات سياسية) وسلطات
اجتماعية او قانونية بصورة اقل، وكلنا يتذكر ما حدث لرواية (ابناء
حارتنا) لنجيب محفوظ، او فلم الرسالة لمصطفى العقاد.
ومعسكر الرافضين لكل سلطة رقابية، متعللين بان ما يقدم وما يعرض هو
جزء من حرية التعبير، وان المنع والمصادرة لا تفيد شيئا امام الفضاءات
المفتوحة في عالم اصبح اصغر مما كنا نتوقع.. وان كل منع او حذف هو
بمثابة دعاية مجانية للعمل الممنوع، حتى لو كان العمل ضعيفا ولا يقدم
شيئا.
على المستوى العربي، برزت قضية الرقابة والمطالبة بالمنع قبل شهر
رمضان، حين طالب الكثيرون بمنع عرض مسلسل (عمر) تحت طائلة حرمة تجسيد
الصحابة..
في العراق، تحولت مسألة قيام ادارة قناة (العراقية) بحذف مشاهد من
مسلسل (فرقة ناجي عطا لله) الى نقاش حول الرقابة والحرية الفكرية
ومحاولة البعض من استغفال المواطن العراقي واعادة بنائه على طريقته
الخاصة على الرغم من أن الفضاء اصبح مفتوحًا، وهي اشارة إلى أن الحذف
ينم عن مؤشرات عديدة تسجل ضد القناة وضد هيمنة الرقيب الذي لا يمتلك
مهنية، والذي ما زال يضع الخطوط الحمر امام الاعمال الفنية ويتعامل
بمنهج يمقته الباحثون عن حرية الفكر والتعبير، وياتي هذا الحذف ليشير
ايضًا الى أن القناة لا بد أن تكون قد وضعت شروطًا لتنفيذ الاعمال
الدرامية العراقية تتعلق بالسلوكيات في المجتمع وممارسات ابنائه
اليومية العادية.
حذف بعض المشاهد، يدل على غباء شديد من قبل الرقيب العراقي،
فالمسلسل تعرضه اكثر من قناة (البغدادية – mbc) وثماني قنوات اخرى وفي
اوقات مختلفة، ويعاد عرضه ايضا في اوقات اخرى، تتيح للمشاهد ان يقارن
بين المعروض على القنوات..
ثم سؤال يفرض نفسه، هل ان ماتم حذفه هو الفساد الاكبر في ما يجري في
العالم والعراق تحديدا؟ وماذا يقال عن تكلفة شراء المسلسل بنصف مليون
دولار، كان الاجدر انفاقها في شراء معدات واجهزة اكثر تطورا في مجال
البث الفضائي، او انتاج مسلسلات عراقية، وتشجيع الانتاج الفني العراقي؟ |