العراق... تراجع الريف والمدينة معا

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: حين يُهمل الريف تبدأ الهجرة نحو المدن، تموت البساتين وتتصحر الارض الخصبة بسبب الاهمال، وربما تجف الانهار ايضا، ويحدث الزخم الكبير نحو المدن، فتعجز دوائر التخطيط والعمران، عن ترتيب الفوضى المعمارية، وتترهل المدن، فتكون النتيجة تراجع الريف وتردي المدن من ناحية الاعمار.

هذه الصورة تحدث الآن في معظم المدن العراقية، مع اننا اصحاب خبرة في البناء تمتد الى أزمنة بعيدة، وكلنا نتفق على أن تراكم الخبرة والمعرفة، هو الذي يقف خلف تشييد أكبر المدن، وأكثرها جاذبية في العالم، وإذا تحدثنا عن خبرتنا في الاعمار والبناء، كعرب ومسلمين إنسانيين، فكثيرا ما تعود بنا الذاكرة التأريخية، الى الوراء آلاف السنوات، ودائما ما نتحدث عن المدن البابلية، والسومرية، والآشورية، وإهرامات الفراعنة، وسور الصين العظيم، وتاج محل، والجنائن المعلقة، وما الى ذلك من شواخص مدنية عمرانية، برع الانسان في بنائها وتشييدها، إستنادا الى خبراته الهندسية في التخطيط العمراني المتوارَث، وفي مشاهدة آنية لما يحدث في العراق، من عشوائية في توسّع المدن، فإننا سنلغي خبراتنا المستمَدة من ذلك الارث العمراني، التخطيطي، الهندسي الموروث عن الاجداد، بصورة شبه تامة.

كما أظن أن المختصين بالعمارة، من مهندسين وخبراء إعمار، سيتفقون معي على أننا نمر بفوضى معمارية لا شبيه لها، سواء في تجاربنا الماضية أو تجارب غيرنا في هذا المضمار، والسبب كما هو واضح، غياب شبه كلي للتخطيط العمراني، العلمي، والمدروس، لتوسّع المدن على حساب المناطق الريفية، ففي الوقت الذي يعاني منه الريف، من إهمال كبير في التخطيط، والبناء، والخدمات الاخرى الملحّة، فإن التركيز على المدن في البناء العشوائي، يأخذ أو يحتل معظم الجهود التي تُبذل في هذا المجال، الامر الذي دفع بأهالي الريف، الى البحث عن فرص الانتماء للمدن، على الرغم من الفوضى الحاصلة في تكوينها وتوسعها، أملا بالحصول على حصة مناسبة من الخدمات العصرية التي يفتقد إليها الريف العراقي، ولعل الاخطار التي تنطوي عليها هذه الظاهرة الثلاثية، لا تُخفى على المسؤول أو غيره، وأقول ثلاثية لأنها تتمثل أولا: بفوضى التوسع العمراني للمدن. وثانيا: بإهمال الريف العراقي وحرمانه من الخدمات ومتطلبات العيش العصري الذي يستحقه كغيره من المواطنين. وثالثا: بهجرة سكان الريف الى المدن، بعد أن تناقصت الموارد المائية والعوامل الساندة الاخرى، فزحفت مساحات التصحّر الى البساتين والمساحات الخضراء، وقلّت الزراعة، وتكالب الريفيون على الوظائف الحكومية التي أصبحت تغنيهم عن زراعة الارض.

إضافة الى غياب شروط الزراعة، كالماء ومكافحة الآفات الزراعية وتوفير المكننة الحديثة، وما الى ذلك من اسباب أخرى، تسوّغ الاعذار المقبولة لكل من يفكر او يرغب بتغيير حياته الريفية الرتيبة، الى حياة مدنية متحركة، وإن كانت مصابة بفوضى التوسع العشوائي، لكنها أفضل من حياة الريف المتردية قياسا الى المدينة، وهكذا تبدو الاخطاء واضحة للعيان في هذا المضمار، فهي لا تنحصر فقط بعشوائية التوسع في التخطيط العمراني للمدن، بل تشمل ضمور الريف بصورة تدريجية، وخطورة تحوّل المجتمع العراقي الى مجتمع مستهلك تماما، بغياب العوامل المساعدة للانتاج الزراعي، الذي يغني الدولة عن استيراد كثير من مفردات السلة الغذائية اليومية للعائلة العراقية.

لذلك يجب على الجهات المعنية خاصة الرسمية منها، كالمؤسسات الهندسية ودوائر التخطيط العمراني في المدن والارياف وغيرها، أن تتنبّه الى المخاطر الحقيقية التي تختبئ وراء عشوائية التوسع في المدن، وغض الطرف عنها او مجاراتها لاسباب مصلحية أو إدارية وما شابه، وكلنا يتابع ذلك التحوّل المؤسف للبساتين القريبة من مراكز المدن، الى أحياء سكنية قضت على الآلاف من اشجار النخيل والكروم وغيرها، وبدلا من أن تُراعى هذه البساتين وتُضاف أراض خضراء جديدة للمدن وغيرها، نرى أن الجهات ذات العلاقة، تتغاضى عن تحويل النباتات الحية الى أكوام من الحجر المنثور عشوائيا، بحجة الحاجة الى السكن وما شابه، نقول نعم لتوسيع المدن، ولكن ضمن الأطر العمرانية المعاصرة والمقننة، على أن يرافق هذا التوسع المدروس إهتمام واضح ومخطَط له، بالمناطق الريفية، وذلك بتنشيط القطاع الزراعي، ومضاعفة الاراضي الخضراء، وعصرنة الحياة الريفية، لكي يكف المواطن الريفي عن الحلم الدائم بالعيش في المدينة، فيتحول هذا الحلم الى مرض يقضي على الريف نفسه، ويضاعف من معاناة المدينة أيضا، إضافة لتحوّل المجتمع كليا الى كتلة بشرية مستهلِكة، لم تدربها حكومتها على الطابع الانتاجي الذي يميز المجتمعات المتطورة عن سواها.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 29/تموز/2012 - 9/رمضان/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م