لحظة كردية مجنونة!

حيدر قاسم الحجامي

لا يمكن ايجاد أي قضية أكثر اهمية من قضية الكورد بالنسبة للعراق، شغلتهُ بل واعاقت كل محاولات قيامه كدولة وطنية قوية، لأنها ظلت عقدة متضخمة اختلط فيها التعصب القومي مع مزاج الساسة المحملين بعقد الماضي العتيد، ورغبة الانتصار الموهوم التي لازمتهم زمناً طويلاً.

القضية الكردية في العراق كانت وظلت على الدوام الحجر الذي تعذر على العراق ابتلاعه، أو التخلص منه بأي وسيلة، والسبب النظرتين الحادتين للقيادة العربية في العراق، منذ تشكيل الدولة فيه عام 1921، وكذلك ضيق النظرة القومية للقادة الكورد التاريخيين الذين لم يؤمنوا سوى بحلم مجنون، دولة مستقلة تضم كركوك، ولم تكن الظروف والمتغيرات الدولية تسمح له بالتحقق ولن تسمح له ابداً بتحقيقه على ما يبدو.

ومع ان الكورد يدركون قبل غيرهم ان الحلم المجنون بـ( كردستان الكبرى)، سيظل يراودهم فقط بأحلامهم التي يفزعها بين حين واخر دوي انفجارات تحذيرية على كافة الاطراف من تركيا وايران والعراق العربي في وقت ما، ولكن نظريتهم على الدوام كانت تتركز على الأضعاف المتواصل للعراق العربي، لأنه المقدمة الصحيحة الأولى لتحقيق الحلم الكردي باعتقادهم.

العلاقة بين الكورد والحكومة المشكلة بعد 2003 كانت محصورة في زاوية المنفعة، القادة الاكراد القادمون الى بغداد مع القوات الامريكية ينهبون ممتلكات الدولة ويسرقون معدات معاملها ويسيطرون على ما تبقى من اسلحة تابعة للجيش العراقي، وينقلونها الى الشمال العراقي، تمهيداً لإقامة دويلتهم، وهذا بشهادة الكثير من القادة الكورد وان بطرقة غير مباشرة حين اعترفوا بالسيطرة على الكثير من المعدات العسكرية التي تعود للجيش السابق، ومن بينها 400دبابة!.

سنوات الاحتراب الطائفي كانت الأكثر متعة وفائدة للقادة الكورد فهم مع كل تطور وتدهور تمر به البلاد جراء اقتتال السنة والشيعة، تتعزز مواقعهم وتزداد مكاسبهم السياسية والاقتصادية، وتسهل عليهم عملية رسم ملامح العراق العربي للعالم الخارجي، فكيف يمكن لهذا العالم الحر أن يطلب من "الاقليم الآمن والواحة الديمقراطية العلمانية " البقاء ضمن هذا العراق المقتتل والمتناحر في حروب القرون الوسطى، أي صورة مثالية كانت ترسم بالنسبة للكرد في بغداد، تظهرهم كحمائم السلام بين وحوش كاسرة تتقاتل في ازقة الأعظمية ومدينة الصدر.!.

ولكن الذي تغير بعد 2008 ونجاح المالكي بمساندة القوات الامريكية من فرض نفوذ الحكومة العراقية على بعض المناطق المتمردة واخضاعها للسلطة العراقية وتقليص حجم نفوذ الجماعات المسلحة، قد دق ناقوس الخطر في الاقليم الذي بدأ يفكر جدياً بأن بغداد القوية في طريقها الأن وان سنوات الاضطراب والاقتتال بدأت ملامحها تختفي مع كل دبابة عراقية جديدة يستوردها العراق، ومع كل عقد تسليحي جديد، ومع كل فرصة تقارب ممكنة بين الساسة السنة والشيعة وغيرها من المؤشرات المزعجة للقادة الكورد، الذين يدركون أن المعادلة عكسية، فكلما ازادت قوة بغداد، فأن قوة اربيل ستتقلص، وتقل حظوظ الاكراد في ضم كركوك "قدس كردستان " كما يحلو لرئيس الجمهورية "مام جلال " تسميتها.!.

ولهذا كان الأكراد واضحين منذ البدء في مباحثات تشكيل الحكومة العراقية بعد انتخابات 2010 حين قدموا ورقة مطالب جاوزت 25مطلب كردي من بينها واهمها احياء المادة 140 من الدستور التي انتهت بعد اشهر من اقرار الدستور، وكذلك الحد من نفوذ بغداد في المناطق المتنازع عليها، وغيرها من المطالب التعجيزية التي وافق المالكي عليها مبدئياً، لكنهُ يعرف ان تطبيقها يعني تعطيل الدستور وتمزيق العراق واضعافه المستمر.

ويبدو أن جناح التشدد الكردي السياسي اخطأ بعدم مطالبته بضمانات كافية، أو انه اجبر على القبول بتوقيع المالكي خوفاً من سيناريو خطر كان يفترض تشكيل حكومة من دولة القانون – العراقية، ودفع باقي القوى الى المعارضة.

وهكذا وجد الكورد أنفسهم مجبرين علناً على رفض تسليح العراق وتطوير جيشه وتزويده بالمعدات، وكذلك الاعتراض على تزويد العراق بطائرات f16وغيرها، والحجة الخوف من ضرب الكورد واستخدامها ضدهم.!

ولا يتردد السيد البارزاني في خرق سيادة العراق ودستوره الدائم ويقوم علناً بقطع واردات النفط ومنع التصدير من الاقليم بل والذهاب الى ابعد من ذلك ببيع النفط العراقي علناً الى تركيا بعد ان كانت هذه العملية تتم في الخفاء، الاصرار على منع اي موظف حكومي رقابي من ممارسة مهامه في اجزاء الدولة الاتحادية في مراقبة الحدود أو المطارات أو حتى الميزانية الاقليمية التي تتحدث المعارضة في كردستان عن فساد هائل يمارسه الحزبان الحاكمان في الاقليم فيها.!

وفوق هذا كله لا يتوانى رئيس الاقليم بالتصريح الفض في انتقاد رئيس مجلس الوزراء الذي هو اعلى مكانة دستورية منه، وارفع مقاماً عنه، كونه يمثل العراق الكل وهو يمثل الجزء منه، لقيامه بعقد جلسة مجلس الوزراء العراقي في مدينة عراقية مثل كركوك، في خروج على النظام والدستور.

بعد كل ما تقدم لا ينبغي ان نقول ان الحكومة الاتحادية في بغداد هي حكومة ملائكة وخالية من العيوب والخلل ولكن هذا لا يبرر ما يقوم به السيد البارزاني من تحد واضح للشرعية الدستورية واحراج للحكومة الاتحادية بتصرفات مجنونة ومتهورة، بدافع هيستيري كلما احس انه لم يعد ممكناً القيام بالسيطرة بالقوة على ما يدعيه من مدن العراق بالمتنازع عليها.

او كلما ووجه بالحقيقة وافهم علناً انه يتحدى الدستور وينتهك السيادة الوطنية ويضر بمصالح العراقيين، وان عليه الكف عن التصرف بكردستان كإقطاعية تابعة للملا مصطفى، بل هي مدن عراقية وفيها مواطنين عراقيين لهم نفس حقوق اي مواطن في هذا البلد وعليهم نفس التزاماته التي حددها الدستور.

اخيراً ينبغي ايضاً ان يقال للسيد مسعود ان ركضك الدائم وراء الحلم المجنون سيقود البلاد الى الدمار من جديد بعد كل دمارها السابق الذي عانته بسبب القضية الكردية وبسبب عنت الانظمة الاستبدادية السابقة.

* كاتب وصحفي عراقي

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 24/تموز/2012 - 4/رمضان/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م