هاربون.. لاجئون.. مقيمون.. عائدون

عن جمع المذكر العراقي الخائف

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: خائفون من لا شيء، وصبايا الشام احلى، ارصفة باب توما، كم ضاعت عليها من خطوات العراقيين بحثا عن علاقة عابرة، او طويلة مقيمة.

خائفون من لا شيء، والاف العناوين في مكتبة الحوزة العلمية الزينبية تستجدي جموع المتسكعين على الارصفة المقابلة للأمن الجنائي.. لا احد يقرأ، ونشتكي قلة المعرفة..

خائفون من لا شيء، وساعات السيران في حديقة تشرين، او في مسابح الغوطة، تطرد القيظ الخفيف، هل قلت القيظ؟ وماذا نسمي حرارة الصيف العراقي؟

خائفون من لا شيء، والخدر الطويل المتمترس امام شاشات التلفاز، يستهلك الحياة والاعمار، لا عمل مفيد، لا صحو مبكر، حان موعد تسليم الحصص من مكتب الامم المتحدة..

خائفون من لا شيء، هل لديك بطاقة الحماية؟ هل قابلت لاجل السفر؟ هل ستجري العملية الجراحية على نفقتهم؟ هل هناك لجنة قادمة؟ احلامك اكبر من كل مدى، واوجاعك اكبر منها.

خائفون من لا شيء، انهم يجمعون معلومات عن العراقيين، انهم يطالبون بمراجعة دوائر الامن، حوزات، مكاتب عشائر، مكاتب مرجعيات، مكتب العراق، مكتب الطلبة، ومكاتب اخرى ستتكفل بتطمينك على اوضاعك.

خائفون من لا شيء، تأتي الى العراق، تستلم رواتبك من الحكومة، تقبض مبالغ الايجارات لأملاكك، تستخرج بطاقة الهوية ام الفسفورة، تستخرج شهادة الجنسية العراقية، لا احد يعترض طريقك، لكنك تستعجل العودة خوفا من لا شيء.

اي اعمار استهلكها العراقيون منذ سنوات طويلة هربا من اوهام نسجتها نفوسهم واحاطت بهم ومنعتهم من اتخاذ قرار بالعودة والتغيير؟ كل شيء في الغربة يفتقد الى قانون الجاذبية، وانت في تلك المنطقة من عدم الاتزان والاستقرار.

الخائفون قبل العام 2003 عاد الكثيرون منهم، وتركوا خلفهم حياة طويلة من عدم الاستقرار والامان الذي كان يفرضه عليهم وضعهم غير القانوني في سوريا، وكانت الحكومة السورية تغض النظر كثيرا عن تلك الحالات طالما انك تحترم القوانين السائدة وتبعد نفسك عن المشاكل.

كان الخوف الطارد تلك السنوات مبررا، فلا شيء في الوطن غير الحصار الخانق، وخلايا الامن، وتقارير المخبرين السريين، وكان الخوف المقيم في سوريا اهون لديك من الخوف في بلدك.

وكان الدخول الى سوريا في تلك الفترة، قبل العام 2001 لايتم الا عن طريق تزكيات خاصة، وبرقيات بالاسم تنتظرك عند الحدود.. ثم تغير الحال، ودخل كل من يستطيع السفر وكان قادرا عليه، دون خوف طارد او خوف مقيم.

بعد العام 2003، عاد كثير من الخائفين، وخرج خائفون اخرون، اسسوا في نفوسهم ممالك اضطهاد وهمية، اخذت تكبر وتتسع مساحاتها، حتى صدقوا الوهم، واصبحوا اسرى له، ولكثرة التوهم وجبروته اصبحت لتلك الممالك اسوارا عالية لا يمكن اقتحامها والقفز عليها.

في العام 2006، كنت احد الخائفين، وهو خوف زاد من اصرار الهروب منه وعود بالهجرة الى امريكا، تركت كل شيء خلفي، وبقي كثير من الاصدقاء في اماكنهم، لم يمسهم سوء، وكان خوفي ليس له مبرر، وخسرت الكثير.

في العام 2008 قررت العودة، وهي عودة نهائية، رغم كثرة اللغط الذي يفوح من فضائية العربية والجزيرة.. كنت خائفا، الا ان ليلة واحدة في العراق بددت مشاعر الخوف تلك ومعها نسيج الاوهام.

اصدقائي باسم ومحمد ومعتز وغيرهم كثيرون، هم بقايا سنوات التسعينات في سوريا، لم يتخذوا قرارا بالعودة، مستصحبين معهم خوفا قديما لا يزول.. ومنهم من لديه مشاكل مع افراد عائلته في العراق، اباء وامهات واخوة، ومنهم من لا يرى الا الاشياء السيئة في العراق تحدث، منهم من يترقب تحقيق وعود بالهجرة، وهي وعود لا يصدقها هو نفسه، لكنه وهم انتظار جودو الذي لا يحضر.

منذ اندلاع التظاهرات في سوريا قبل اكثر من عام، وانا اطالب من اعرفهم بالعودة، مذكرا اياهم بحال الفلسطينيين في العراق في الاعوام التي تلت العام 2003، وبانهم سيحسبون على النظام.. وكانوا يطمئنوني عبر الاوهام، لا شيء سيحدث، مجرد تظاهرات وتجمعات ينفض عنها سامروها بعد اكثر من شعار وهتاف.

ثم الى اين نعود؟ الايجارات مرتفعة، القمامة في كل مكان، الكهرباء غير موجودة، ونحن لا نستطيع ان نعيش في ظل ظروف كهذه.

يا سلام.... كيف اذن يعيش ملايين العراقيين في وطنهم. ما الذي يجعلكم افضل منهم؟ ما الذي يجعل العامل في المطاعم السورية افضل من فلان استاذ الجامعة، وعلان الباحث والكاتب وغيره من الذين يتحركون على ارض تمنحهم جاذبية الوطن رغم كل متاعب هذا الوطن؟

الهاربون يبدأون بالعودة، لكنها عودة منكسرة، مهشمة، لا شيء من سنوات الكدح غير الملابس البالية، وبعض الاجهزة الكهربائية صغيرة الحجم، ماكنة حلاقة، ريسيفر، جهاز لابتوب، اقراص سي دي، ومكرمة الحكومة بانتظار المتقدمين اليها.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 23/تموز/2012 - 3/رمضان/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م