شبكة النبأ: الدولة المدنية والاصلاح
صنوان لا يفترقان، فأينما وُجد الاصلاح شخصت الدولة المدنية قائمة
بكيانها وهيكلها العصري المتوازن، حيث تنطوي على عناصر وعوامل التمدن
كافة، مثل حرية الرأي، والتعددية، والتعايش، والقبول بالآخر، واحترام
الحقوق السياسية للافراد وللمجتمع عموما، حيث يقود الاصلاح الى ترسيخ
قيم التحرر في الدولة المدنية.
مقومات الاصلاح
لا يمكن تحقيق قاعدة اصلاح حقيقية في الدولة والمجتمع، ما لم تنبنِ
اولا مقومات راسخة وقوية للاصلاح، هذا ما يؤكد عليه الامام الراحل، آية
الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم
الموسوم بـ (الاصلاح)، فقد أكد سماحته على الحاجة القصوى لمقومات
الاصلاح ومنها مقومان أساسيان كما يشير لهما سماحته:
(الأول: الرشد الفكري ومعرفة الضار والنافع. الثاني: يلزم أخذ
النافع المانع من النقيض وترك الضار كذلك مما يعبر عنه بالواجبات
والمحرمات).
ومع ان المسلمين يشكلون نسبة سكانية عالية في العالم، إلا أننا لا
نزال نلاحظ النواقص الكبيرة التي تعتري حياتهم، في عموم المجالات
الثقافية، والدينية، والسياسية، والصناعية، وحتى الزراعية منها، ناهيك
عن التعليم وضعفه، ورداءة المناهج العلمية، وتأخر طرق التعليم لكوادر
التدريس وطرائقه المتخلفة، بالاضافة الى تخلف منشآت ومرافق التعليم
نفسها، الامر الذي يؤكد ضعف الرشد الفكري لنسبة كبيرة من المسلمين.
يقول الامام الشيرازي في هذا المجال: (المسلمون اليوم ملياران لكن
يفقدون ـ على الأغلب ـ الرشد الفكري اللازم في مختلف مجالات الحياة).
لهذا في الغالب لا نجد دولة مدنية متكاملة، في المجتمعات الاسلامية
الموزعة في اصقاع كثيرة من المعمورة، بمعنى هناك دول كثيرة تتخذ من
الاسلام دينا رسميا لها، وان نسبة السكان الغالبة فيها من المسلمين،
ولكن نلاحظ غياب الاسس السليمة فيها، لبناء الدولة المدنية التي تحفظ
حقوق الناس وكرامتهم وحرياتهم والانصاف بينهم.
لذا يؤكد الامام الشيرازي رأيه في هذا الجانب قائلا: (المسلمون
بحاجة إلى أمرين مفقودين عندهما: أولاً: الوعي. وثانياً: نوع من
الإلزام فيما هو بصالحهم).
دور جماعة الاصلاح
من المؤكد ان الاصلاح لا يتم إلا بارادة فعالة مؤمنة، تسعى الى
تحقيق هذا الهدف الجوهري، مع التخطيط والتنظيم المسبق للوصول الى هذا
الهدف الكبير، حيث سبقتنا امم وشعوب الى درجة من الاصلاح، تحترم قيمة
الانسان وتحفظ كرامته وتحمي حرياته، وتتيح له كل ما يطور قدراته
ومواهبه، وتضمن له مشاركة سياسية متساوية، من خلال الانتخاب الحر
للجميع، ولم تصل تلك الامم والمجتمعات الى هدفها المتمثل بناء الدولة
المدنية، إلا بجهود حثيثة ومتواصلة وصبر وسعي لا يتوقف، تقوده جماعات
مؤمنة ذكية لها ارادة مخلصة وقوية ايضا، لتحقيق هدفها المنشود في بناء
الدولة المتحضّرة.
لذلك يقول الامام الشيرازي، في هذا الخصوص بكتابه (الاصلاح): (يمكن
التغيير والإصلاح بواسطة جماعة جادة مخلصة تعمل ليل نهار وعلى طول الخط).
بيد ان الملاحظ علينا نحن المسلمين اننا تأخرنا عن الركب العالمي
المعاصر، لا سيما فيما يتعلق ببناء اسس سليمة وقوية للدولة المدنية،
ولابد هناك اسباب هامة تقف وراء هذا التعويق المتواصل على مدى قرون،
منذ ان غابت الشمس عن اكبر واقوى دولة اسلامية في التاريخ، حين ابتدأت
بالرسالة المحمدية العظمى، حيث كان قائدها الرسول الاكرم (صلى الله
عليه وآله وسلم)، الذي اعطى مثالا عظيما للقائد المدني، الذي يساوي بين
الجميع ويرعاهم، من خلال سعيه لبناء دولة اسلامية لا فقر فيها، ولا جوع،
ولا ظلم، بغض النظر عن الانتماء الديني، او العرقي، او الجغرافي وغيره.
لذلك يقول الامام الشيرازي في هذا الصدد بكتابه المذكور نفسه:
(من أهم أسرار الانهزام عدم اتصاف - المسلمين- بقوة الإيمان كما
كانوا عليه في صدر الإسلام) ويضيف الامام الشيرازي: (أن هذا الانهزام
باق إلى الآن ومن أهم أسباب استمرارية الانهزام هو حكام المسلمين).
أهمية مواكبة العصر
ان الاسلام بتعاليمه الواضحة يدعو بوضوح الى سعادة الانسان، ومراعاة
انسانيته وحقوقه، وهذا ما حدث فعلا حينما نقل الاسلام المجتمع الجاهلي
الى رياض النور والفكر المتطور، لذلك لا يتقاطع الاسلام مع الحداثة، او
مواكبة العصر، كونه يدعو الى تحرير الانسان واطلاق قدراته ومواهبه،
وابداعه من خلال التكافؤ في الفرص والمساواة وما شابه، من عوامل تبني
مجتمعا متوازنا مبدعا مرفها ومتمدنا.
يقول الامام الشيرازي في كتابه المذكور بهذا الصدد: (من مقومات
الإصلاح مواكبة العصر، فإن الدين الإسلامي هو الدين الصالح لكل زمان
ومكان، وفيه من الأسس والقواعد ما يجعله قابلاً للتطبيق في مختلف
الظروف، وهو الذي يضمن سعادة البشر وتطوره وازدهاره).
ومن مقومات الاصلاح وبناء الدولة المدنية، ان نتقارب مع المجتمعات
والدول الاخرى، في علاقات متوازنة ترعى المصالح المتبادلة، وتقلص
المسافات والفوارق وتذويب العداوات والموانع التي تحول بين تلاقي
المجتمعات البشرية وانسجامها.
لذا من هذا المنطلق يدعو الامام الشيرازي الى اهمية تحييد الغرب،
وعدم جعله عدوا للاسلام طالما هناك نقاط مشتركة للتلاقي، إذ يقول
الامام في هذا المجال: (من أهم مقومات الإصلاح هو تحييد موقف الغرب من
عداء المسلمين، فإن الإسلام لا يشكل خطراً على الغرب، بل الإسلام هو
الذي ينقذ الغرب من مفاسده ويمهّد له طريق التقدم الأكثر والأشمل).
ولذلك يتطلب الاصلاح وبناء الدولة المدنية، طرازا خاصا من التثقيف
والوعي المتصاعد لعموم الناس، بمعنى يجب ان يحدث تطور في عموم مجالات
الحياة، من خلال السعي لايجاد ثقافة جماعية متواصلة في كل مجالات
الحياة.
يقول الامام الشيرازي عن هذا الجانب المهم: (إن تغيير زماننا وتطوره
في الطب والعلوم الأخرى، وكثرة الوسائل والتقدم الصناعي وغزو الفضاء
وما أشبه، يوجب طبع كتب مناسبة لهذا الزمان، في مختلف المجالات من
الاجتماع والاقتصاد والسياسة والتربية وغيرها). |