شبكة النبأ: كما هو واضح، تُعدّ
الادارة الناجحة إحدى أهم الركائز التي يتطلبها بناء الدولة المعاصرة
أو المدنية، تلك الدولة التي تتساوى فيها الحقوق مع الواجبات، وتنمو
فيها الكفاءات، وتأخذ دورها كما يجب، وتُحفظ فيها الحريات كافة، وتُضمن
فيها حرية الرأي والاعلام والفكر، ويُكفل التعايش والتعددية، في اطار
دولة المؤسسات، فلا يمكن بناء دولة حديثة ناجحة، من دون وجود إدارة
ناجحة، في عموم الميادين الحياتية المتنوعة.
الادارة ومزايا السلطة
لاشك أن إدارة مؤسسة أو معمل او مدرسة او دائرة أو دولة، تعني منح
من يقوم بادارتها سلطة واضحة، وفيما يتعلق بادارة الدولة، فإن ذلك يتبع
الصلاحيات والصيغة الدستورية للدولة، وطبيعة النظام السياسي الذي
يحكمها، ولذلم ترتبط الادارة عموما بالسلطة، فالمدير أيا كانت الجهة
التي يديرها، لابد أن يتمتع بدرجة معينة من السلطة على مؤسسته
والمنتسبين لها لكي ينجح في مهامه، إلا أن الامر قد يخرج خارج حدود
السلطة الممنوحة للشخص، وقد يتحول الى مستبد، وهنا تبدأ المعاناة مع
الادارة الفاشلة، كما حدث ويحدث مع معظم الدول التي عانت ولازالت تعاني،
من أنظمة قهرية مستبدة.
يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي
(رحمه الله)، في كتابه القيّم، الموسوم بـ (نحو ادارة ناجحة)، في هذا
المجال: (الإدارة هي فن ممارسة سلطة الإنسان على أفراد جنسه أو على
الطبيعة، ولكن هذه السلطة تختلف من شخص إلى آخر، فبعض يستحقها وبعض
تقمّصها، وعند البعض تكون الإدارة هي السلطة المطلقة، فالشخص الذي
يمارس الإدارة حتى وإن لم يكن مؤهلاً لها شرعا، لكنه يمتلك صلاحية
كاملة في توجيه ما يريد وكيفما يريد وأينما يريد، وهذه الفكرة عادة
تترسخ عند الاستبداديين ومن يدور في فلكهم).
وكما هو الحال مع جميع الانشطة الادارية او السياسية وغيرها، حيث
تخضع لمعايير النجاح والفشل، فإن الادارة تخضع ايضا لقضية النجاح
والفشل، بل قد تتحدد قيمة الادارة استنادا الى معياريّ النجاح والفشل،
كما يرى ذلك الامام الشيرازي في كتابه المذكور نفسه، حيث يقسّم الادارة
وفقا لشرطيّ النجاح والفشل كما نقرأ ذلك في قول سماحته: (الإدارة تنقسم
إلى قسمين: إدارة ناجحة، وإدارة فاشلة، ولكل منهما أسباب، فالإدارة
الناجحة لا تكون إلا بمقوماتها، من شروط ومقتضيات وعدم المانع إلى غير
ذلك مما هو مذكور في محله. وإلا ستكون فاشلة. ومن أهم مقومات الإدارة
الناجحة: هي المداراة).
إدارة الرسول الأكرم إنموذجا
جميع الانشطة البشرية تتطلب المساعدة والدربة والمعرفة اولا، وهكذا
هي الحال مع فن الادارة الذي سبق ان قال عنها الامام الشيرازي (الادارة
فن التحكم بالسلطة) وليس تحكم السلطة بالانسان، حيث يتحول الحاكم الى
إلعوبة بيد السلطة، بدلا من أن تكون السلطة تحت سطوة الحاكم، لذلك من
أهم ما تميزت به تجربة الرسول الاعظم -صلى الله عليه وآله وسلم- مع
السلطة ابان قيادته لاعظم دولة في العالم، انه كان يجيّر السلطة لصالح
الناس، وانه كان يدير السلطة ادارة ناجحة تخدم المسلمين، وعموم مواطني
الدولة حتى الذين ينتمون الى اديان اخرى كالنصارى واليهود، حيث كان
الجميع سواسية كأسنان المشط، وذلك من خلال مبدأ المداراة.
يقول الامام الشيرازي في هذا المجال بكتابه المذكور نفسه: (إن من
أهم ما يلزم الاهتمام به من قبل الجميع: المداراة، التي هي من حُسن
الإدارة، وكذلك معرفة الأسس التي سار عليها الرسول الأكرم –صلى الله
عليه وآله وسلم- وأهل بيته الطاهرون -عليهم السلام- في إدارة شؤون
المجتمع والتعامل مع الناس مما يُعبّر عنه بفن التعايش).
لكن نلاحظ هناك خلل، في كيفية الاستفادة من تجربة الرسول - صلى الله
عليه وآله وسلم-، يتضح هذا من قلة المؤلفات والكتب التي تناولت هذا
الجانب، حيث لم يُكتب العدد والكم الذي يتناسب مع حكمة التجربة
السياسية الادارية، ولا مع الاعداد الكبيرة للمسلمين وحاجتهم للاطلاع
على فن ادارة السلطة، وكيف تعامل رسولنا الاعظم مع هذا الجانب الجوهري
لبناء الدولة الاسلامية ابان تلك المرحلة البالغة الاهمية من تاريخ
المسلمين.
لذا نلاحظ أن الامام الشيرازي، يؤشر هذا الخلل بوضوح عندما يقول في
هذا الجانب: (على الرغم من الجهود العظيمة التي بذلها الرسول الأعظم -
صلى الله عليه وآله وسلم- وضرورة معرفتها بشكل تحليلي متكامل، ولا يخفى
أن هذا العمل صعب للغاية، إلا أنه لو تحقق ذلك لكان عملاً كبيراً نافعاً
جداً. إلا أنه لو تحقق ذلك لكان عملاً كبيراً نافعاً جداً. والتأسي بها،
فإننا لم نشاهد بالمقدار الكافي كتباً وبحوثاً قد تناولت سيرة وحياة
رسول).
فن ادارة المعارضة
ويؤكد الامام الشيرازي، أن لا سلطة مطلقة للانسان العادي، فالسلطة
المطلقة من اختصاص الحكم الالهي ومن يخوله في تعالى في ذلك، أما اذا
حدث العكس فإن الخلل والفشل في ادارة السلطة سيبدو واضحا، وسوف ينعكس
فورا على الدولة والفشل في بنائها، لذلك لابد لمن يدعي انتسابه للاسلام
من الحكام والانظمة ان يلتزموا بهذا الجانب، ناهيك عن اهمية حضور
الادارة المعارضة للحد من اخطاء استخدام السلطة وادارتها بطرق فاشلة.
يقول الامام الشيرازي في هذا الخصوص: (أما الإسلاميون فلا يرون هذه
الإدارة المطلقة للإنسان العادي، بل الإدارة المطلقة والولاية المطلقة
تكون من خصائص الباري عزوجل وهو عادل لايظلم أحداً، وكذلك من خوّله
الله تعالى لها، وهوالنبي الأعظم -صلى الله عليه وآله وسلم- والإمام
المعصوم –عليه السلام-، أما الإنسان العادي فلا يحق أن يقوم بهذه
السلطة المطلقة).
لذلك اذا تحول الحاكم (وهو انسان عادي) الى سلطان مطلق الصلاحيات،
عند ذاك لابد للصوت المعارض من الظهور بقوة، والتأثير الجاد والاشتراك
الفعلي في بناء الدولة الحديثة، ويجب على السلطة نفسها (الحاكم
والحكومة) أن تمنح الفرص المواتية للمعارضين، لكي تتوازن ادارة السلطة،
ولكي يتطور الفعل المعارض ويسهم في بناء أسس الدولة الديمقراطية.
ولنا في تعامل الامام علي عليه السلام- درسا بليغا في هذا المجال،
كما نقرأ ذلك في قول الامام الشيرازي بكتابه المذكور نفسه: (كذلك
للإمام أمير المؤمنين -عليه السلام- مناظرات عديدة مع الخوارج، وهي
تبين بدورها أسلوب التعامل مع المعارضة وفن إدارة الأعداء الداخليين،
وبعض هذه المناظرات والبحوث والنقاشات كان يطول أكثر من ثمان ساعات
أحياناً، ولكنه لم يصلنا منها إلا الشيء القليل). |