التقيتُ يوماً بمسؤول أمني عراقي أُخْرِجَ من منصبه، وأتُهم
بالارهاب، وتحدثنا عن الوضع الأمني في البلد، وهو يفاخر ببطولاته
وصولاته على أعداء العراق ( كما يزعم)، وفي زحمة وصفه لبطولاته وتبجحه
بأعماله قال لي: (أحتفظ بملفات فساد كثيرة عبارة عن أفلام ووثائق عن
شخصيات ومسؤولين وإرهابيين، فقلت لصاحبي لماذا لم تسلم هذه الملفات
لخلفك كي يتطور العمل وهذه أمانة لأنها تخص أمن البلد فأجابني: وهل أنا
مجنون لكي أمنح فلان....
( يقصد المسؤول الأمني الذي أعقبه) هدية ثمينة وهو يستفيد منها
وتسجل له حسنة. فتعجبت من كلامه، وقلت ولكن هذه الوثائق تخص أمن الوطن
والمواطن، فسخر مني وقال سيأتي يومها وهي ورقة أهدد بها فلان... إذا
أراد ان يهددني.
فأيقنت حينها ان عقلية السلطة هي من تسيطر على خراب العراق.
ويبدو أن صاحبي لم يكن شاذاً لأن التهديد بكشف الملفات السرية علامة
فارقة تحكم فرقاء العملية السياسية في العراق، وتكاد تكون هذه الصفة
ملازمة لهم، فمن غير المعقول أن تعمل بالسياسة في العراق دون أن تحمي
نفسك بملفات سرية تخبئها لتخرجها وقت اشتداد الأزمة واصطكاك الأسنة
طبعاً، ويبقى الشعب ينتظر الفضائح لتُكشف الحقائق كمتفرج.
هذا المشهد يعطي إنطباعاً أن هناك صراع على الوطن وليس في الوطن أو
للوطن، فالوطن ليس مهماً، لذا فقد الشارع العراقي الثقة بالمتصارعين أو
كاد...فنرى عندما تثار أي قضية فساد سياسي او مالي تتصاعد وتيرة
التصريحات حتى تصل الذروة ثم تبدأ تخفت ويتراجع أبطال القضية بعد بدأ
عملية التهديد بكشف المستور.
ففي قضية وزير التجارة السابق التي بدأت عاصفة وهزت الشارع العراقي
المسكين الذي هتف وصفق وفرح لكشف الفاسدين، واعتبر الخطوة بداية
النهاية للفساد والمفسدين، وهو لا يدري أن الوزير قد أعد العدة واستبق
الكارثة وأسس لخطوط حماية وأحتفظ بملفات سرية لوقت الشدة حاله حال بقية
اللاعبين. فسرعان ما رأينا الوزير العتيد يسرح ويمرح في مطاعم لندن مع
عائلته، وهو يستعد الآن لفتح مشروع كبير فيها. وأخيراً أخذ الوزير يهدد
ويسخر من خصومه بأن يكشف ملفات السُرَّاق، ويقول: ان هذا القرار ليس
سوى حبر على وراق ولن يهز شعرة من شعر راسي أبداً وانا احمل الجواز
البريطاني. ولم يرد أو يحاول أن يرد عليه احد. فيبدو وكأنه واثقٌ مما
يقول.
ويتكرر السيناريو في أزمة الهاشمي وفي ازمة سحب الثقة الأخيرة
فالمجتمعون في اربيل والنجف أقاموا الدنيا ولم يقعدوها وهم يزبدون
ويرعدون ويزمجرون بسحب الثقة عن المالكي وأعتبرها البعض منهم أمراً
إلهياً واجب التنفيذ، والبعض الآخر حمايةً للدستور من الإعتداء ومنع
ظهور الدكتاتورية، إلا أن الأمر الإلهي تبخر، والاعتداء على الدستور
تلاشى، والدكتاتورية تحولت الى إصلاح، بمجرد أن هدد السيد المالكي فيما
إذا أستُجوب بكشف الملفات السرية والمخبأة لوقت (العازة)، فيما هدد
السيد البرازني قبل ذلك بكشف ما يمتلك من أوراق وملفات على المالكي،
ورأينا النائب صباح الساعدي صاحب الصوت الاعلى في كشف الملفات لم يحرك
ساكناً ولم يقدم ولا نصف ورقة وهو يطير الى اربيل ويزور النجف، وربما
يخبأ ملفاته ليوم شدته، وكذلك أمين العاصمة الموقر الذي هدد هو الأخر
بملفاته الخاصة لكنه منح النواب قطع أراضي على نهر دجلة، ويستمر مسلسل
الملفات السرية والعراقيون يراقبون ويخسرون.
لكن أمراً يرشح من هذه الحرب وهي ان أطراف العملية السياسية هم
أعداء أكثر من كونهم شركاء، لذا يتخوف أحدهم من الآخر، فأزمة الثقة هي
الحالة الأبرز بينهم، فهم لم يمتلكون حُسن النية ببعضهم البعض، لذا
يلجأون الى الاحتفاظ بالملفات السرية والخطيرة، والأمر الآخر ان
الفرقاء يخططون للإيقاع بالخصوم عن قصد أكثر من العمل معهم كمكملين
لبعضهم البعض،، لذا نراهم مشغولون بالصراع أكثر من إنشغالهم بالبناء
والانجاز.
إذاً فما يُدري الفرقاء أنهم سيقعُّون بالازمات، غير انهم يخالفون
القانون ويتجاوزون على الدستور ويظلمون المواطنين، من هنا فهم يعلمون
علم اليقين بالمخالفات التي يرتكبونها وحجم الجرم بحق العراق، لذا
يتوجهون الى جمع الملفات والوثائق على قاعدة القرش الأبيض ينفع في
اليوم الأسود.
ويبقى السؤال ماذا يجني المواطن العراقي من هذه الحرب ؟ وحرب
الملفات الى أين؟ |