جابر بن حيّان... ملهم الكيمياء القديمة

محمد الصفار

 

شبكة النبأ: اذا كان الواجب العلمي يقتضي منّا أن نحيي تراث علمائنا وأعلامنا ونضع آثارهم موضع تقدير ونلبي ما يملي علينا الوفاء لهم بدراسة ما قدموه من علوم ومعارف الى الحضارة الانسانية فإن أولى مت يستحق منا هذا الواجب من هؤلاء الأعلام الخالدين هو جابر بن حيان الذي يعتبر ثروة علمية هائلة وثورة فكرية عظيمة في تاريخ البشرية أضاءت طريق العلم في عصور التاريخ.

فكان لنتاجه الأثر والضخم الاثر الكبير في تطوير العلوم الطبيعية والأثر الاكبر في الكثير من الاكتشافات العلمية كما كان لاعتماد الدول الاوربية على اكتشافاته سبباً في نهضتها العلمية كل هذه المؤهلات التي يمتلكها جابر كانت السبب في أن يعطي الدكتور زكي نجيب محمود أولوية في تسليط الضوء والبحث والدراسة عن جابر بن حيان والحديث عن علميته واكتشافاته وتقديمه على كل العلماء في مختلف العصور.

حيث يقول في مقدمة كتابه عن نشأة الفكرة عنده حول الكتابة عن جابر: كنت أحاضر طلابي في الجامعة ذات يوم وكان موضوع المحاضرة متصلاً بمنهاج البحث العلمي وكانت المادة التي أعرضها في المحاضرة مستمدة من علماء الغرب وفلاسفته ذلك لأن العلوم الطبيعية حديثة النشأة لم تكد تولد قبل عصر النهضة الاوربية في القرن السادس عشر ولم نذكر العلوم الرياضية لأنها أقدم نشأة وأسبق تطوراً من العلوم الطبيعية واما قبل ذلك فقد كانت مختلطة باصول فلسفية معتمدة في أغلب الاحيان على تأمل نظري اكثر مما تعمد على مشاهدة متعقبة وتجريب دقيق صارم ، ثم يتابع الاستاذ قصته مع الكتابة عن جابر بن حيان، فيقول: ولما كانت الحضارة الانسانية منذ النهضة الاوربية قد اتخذت الغرب -اوروبا- وحدها ثم اوروبا وامريكا معاً بعد ذلك مقراً لها في طريقها الطويل الذي اخذت تتنقل خلاله من موطن الى موطن فقد بات الغرب –ابان القرون الثلاثة الاخيرة- هو مركز العلم فلا مندوحة لمن يريد التحدث عن اصول العلم وفلسفته ومنهجه عن الرجوع اليه ليستقي منه مادة حديثة، وفيما الاستاذ زكي يلقي محاضرته على هذا المنهج يفاجئه احد طلابه بهذا السؤال: لماذا لم تجعل من امثلتك المعروضة مثلاً من علماء العرب؟ ثم يتحول السؤال من الطالب لاستاذه الى نبرة عتاب!! ألم يكن للعرب علم يُرجع اليه ويستفاد من منهاجه؟ ووقع هذان السؤالان في الصميم من الاستاذ جعلاه يعيد النظر كثيراً في حساباته وأشارا عليه بأن ينظر الى الخلف قليلاً ليرى ان المصدر الذي استقت منه الحضارة الاوربية هم العرب وبالخصوص جابر بن حيان فنبهه السؤال ايضاً الى ما يقتضيه واجبه العلمي من الادلاء بهذه الحقيقة وظل هذا الواجب تجاه علمائنا الاولين ليزداد إلحاحاً عليه بأن ينهض كي يؤديه.

واخيراً عقد الاستاذ زكي العزم على تأدية هذا الواجب فيقول: وصحت مني العزيمة منذ ذلك الحين أن ألبّي رغبة الطالب لأنها في الحقيقة رغبة وطن ناهض اراد ان يجمع في نهضته النظرة الى امام واللفتة الى وراء حتى يجيء السير موصول الحلقات مرتبط المراحل، ولكن بمن بدأ الاستاذ زكي تأدية واجبه من العلماء العرب على كثرتهم وتعدد علومهم وآدابهم ومعارفهم؟ يجيبنا الاستاذ على سؤالنا بقوله: وبدأت بإمام العلوم الطبيعية عند العرب ألا وهو جابر بن حيان.

ولم يكن اختيار الاستاذ زكي جابراً قد خلقته الصدفة أو عن طريق ما هو في متناول يديه بل جاء عن طريق الدراسة المستفيضة والمقارنة بينه وبين غيره من العلماء وسبر اغوار التاريخ والاطلاع على الحقائق العلمية وهي التي جعلته يقول: وعمل الكيميائي في تحويل المعادن هو نفسه عمل الطبيعة في تكوينها لولا ان الطبيعة قد استغرقت آماداً طوالاً في تكوين ما كوّنته من ذهب وفضة ونحاس وغيرها على حين يستطيع العالم بتجاربه ان يختصر الزمن الى برهة وجيزة.

وكيمياء جابر هي تفصيل القول في هذه التجارب لكن الاستاذ زكي يشعر أن علم جابر فاق علم الكيميائي المحض بل تخطاه الى غيره من العلوم فيقول: لكن جابراً لم يكم كيميائياً وكفى بل كان كذلك فيلسوفاُ يتصور الامور كما يتصورها الفلاسفة من حيث محاولتهم أن يجمعوا أشتات الكون في بنية واحدة يبحثون لها عن مبدأ اول ثم يفرعون منه الفروع وهكذا فعل جابر فله محاولة من هذا القبيل يدعمها بجدل فلسفي من الطراز الاول.

كما كنت عبقرية جابر هي السبب في تخصيص الاستاذ رؤوف سبهاني اطول فصل في كتابه (مشاهير فلاسفة المسلمين) لجابر بن حيان قائلاً في مقدمة الفصل: انه جبر بن حيان احد اولئك المفكرين الذين اطلقوا الفكر من عقاله واحد روّاد الحضارة البشرية والكاشف لأسرار الطبيعة والمتعمّق بأسرار الكون والساعي بكل جهوده لتطوير الحضارة والذي لولاه لتأخر سير الحضارة نحو التطور اجيالاً كثيرة.

فمنزلة جابر العلمية الكبيرة وريادته لعلم الكيمياء غير خافية على كل باحث، يقول حاجي خليفة في (كشف الظنون): جابر هو كيميائي العرب الاول فهو أول من اشتهر علم الكيمياء عنه ويقول هولمبارد: وهو-أي جابر- اول من يستحق لقب الكيميائي من المسلمين، ويقول اسماعيل مظهر في تاريخ الفكر العربي: والظاهر انه-أي جابر- قد أصاب من ارتفاع المكانة وضخامة الثراء وبُعد الصيت ما جعله موضع التقدير آناً وموضع الحسد والاضطهاد آناً واما التقدير فهو الذي أحاط اسمه بهالة من الجلال أزاغت عن حقيقته أبصار الكاتبين فيما بعد حتى لتجد من يصفه منهم تارة بأنه (ملك الهند) وتارة اخرى بأنه (ملك العجم) وتارة ثالثة بأنه (ملك العرب).

لقد كان جابر جديراً بهذه الالقاب فإيمانه بالعلم كان مطلقاً وفكره كان خالصاً له ولا شيء يحوله دون المضي في كشف اسرار العلوم وسبر غورها وأبرز ما اشتهر فيه منها هو علم الكيمياء، وخاصية هذا العلم تتوجب على المشتغل بها ن يبدل طبائع الاشياء تبديلاً ويحولها بعضها الى بعض وذلك اما بحذف بعض خصائصها او بإضافة خصائص جديدة اليها لأنه إن كانت الاشياء كلها ترتد الى أصل واحد كان تنوعها راجعاً الى اختلاف في نسب المقادير التي دخلت في تكوينها، فمثلاً الذهب لا يختلف عن الفضة في الأساس والجوهر بل هما مختلفان في نسبة المزج فإما زيادة هنا او نقصان هناك وما على العالم إلّا أن يحلل كلاً منهما تحليلاً يهديه الى تلك النسبة كما هي قائمة في كل منهما فمقدار التغيير هو حذف او إضافة.

وهذا العلم اختلف العلماء انفسهم في امكانية حدوثه من قبل أي انسان فمن الذين انكروا حدوثه الشيخ الرئيس ابن سينا الذي جهد أن يبرهن على بطلانه في كتابه (الشفاء) ودليله على ذلك هو ان الصفات التي يقال عنها انها اذا أضيفت هنا او حذفت هناك تحولت الاشياء بعضها الى بعض صفات محسوسة عرضية لا تمس جواهر الاشياء فليست هي بالفواصل الحقيقية التي تميز نوعاً من نوع.

واما الفواصل الحقيقية فمجهولة فلسنا ندري ماذا في الذهب مما يجعله ذهباً ولا ماذا في النحاس ما يجعله نحاساً واذا كان الشيء مجهولاً فكيف يتاح لنا ان نوجده إيجاداً او أن نفنيه افناء؟ ويقف الفيلسوف الكندي الى جانب ابن سينا في آرائه وموقفه المنكر لحدوث هذا العلم معززاً قول ابن سينا بقوله: ان الطبيعة قد انفردت -دون الانسان- بأشياء محال على الانسان أن يأتي بمثلها كما انفرد الانسان -دون الطبيعة- بأشياء اخرى ومن الخلط بل من الخداع ان يحاول الانسان فعل ما قد انفردت الطبيعة بفعله فكما انه مال على الطبيعة أن صنع سيفاً او سريراً او خاتماً فكذلك محال على الانسان أن يصنع ذهباً او فضة او نحاساً.

وقد أيد رأيهما ابن خلدون وله كلام في ذلك يشبه كلامهما وكذلك ابن تيمية الذي قال بإستحالة هذا بالعلم وفي مواجهة هؤلاء نرى في الاتجاه الآخر لهم جماعة من العلماء والفلاسفة وضعوا تصانيف في امكانية حدوث مثل هذا العلم ومن هؤلاء فخر الدين الرازي الذي عقد فصلاً في المباحث المشرقية بيّن فيه امكان علم الكيمياء والشيخ نجم الدين ابن البغدادي الذي ردّ على ابن تيمية وفنّد ما كان قاله عن استحالة علم الكيمياء وكذلك ابو بكر محمد زكريا الرازي الذي تصدى للرد على الكندي في نفس الموضوع.

اما ابن سينا فقد تكفّل بالرد عليه الطغرائي والذي ألّف كتباً أثبت فيها امكان قيام هذا العلم وكذلك ردّ فيها على ابن سينا قوله في عدم امكان حدوثه. وبين هذين الرأيين المتضاربين في هذا العلم نرى من اتخذ موقف الوسيط بين امكانية حدوثه من عدمها وقد تبنّى هذا الرأي ابو نصر الفارابي وخلاصة رأيه: هي ان تحوّل الاشياء بعضها الى بعض متوقف على نوع الصفات المراد حذفها او اضافتها فإن كانت اعراضاً ذاتية تعذّر التحوّل واما إن كانت اعراضاً عرضية أمكن التحوّل هذا الى ان امكان التحوّل قد يكون مقبولاً من الوجهة الصورية النظرية لكنه عسير من الوجهة الفعلية العملية وفي خضم هذه الاقوال المتضاربة والآراء المتعارضة بين امكانية حدوث هذا العلم من عدمها يأتي جابر بن حيان ليقطع النزاع وليرجح كفة احد الفريقين وليبرهن بالفعل لا بالقول فقط على امكانية حدوث هذا العلم موضحاً ما عجز عن فهمه الذين قالوا بإستحالة وقوع هذا العلم بقوله: ان اسرار الطبيعة قد تمتنع على الناس لأحد سببين فإما أن يكون ذلك لشدة خفائها وعسر الكشف عنها وإما ان يكون ذلك للطافة تلك الاسرار بحيث يتعذّر الامساك بها وسواء كان الامر هو هذا او ذاك كان في وسع الباحث العلمي أن يتلمس طريقاً الى تحقيق بغيته فلا صعوبة الموضوع ولا لطافته ودقته مما يجوز أن تحول العلماء دون السير في شوط البحث الى غايته. فمن يحمل العلم سلاحاً فبإمكانه خرق حجب الطبيعة وإيضاح كوامنها وكشف اسرارها.

وهكذا كان جابر فهو يتعجب من الذين قالوا ان العلم يعجز امام الطبيعة فيقول: كيف يُظن العجز بالعلم دون الوصول الى الطبيعة واسرارها؟فهل يعجز العلم عن استخراج كوامن الطبيعة ما قد ثبتت قدرته على استخراج السر مما هو ستر وراء حجبها؟ثم يطالب من يحمل هذه الفكرة أن لا يتصدى للكيمياء لأنه لم يستوف اركان البحث فيقول: اننا لا نطالب من لا علم له بالتصدي للكيمياء بل نطلب ذلك من ذوي العلم الذين استوفوا اركان البحث واركان البحث عند جابر لا تتهيأ لكل نفس ولا كل من ادّعى العلم بل ان هناك معنى روحياً يجب ان يتحقق عند العالم لكي يلم بالعلم الذي يبتغيه.

وهذا المعنى هو الاعتدال حيث يقول: فالشخص المعتدل هو الذي يستخرج الاشياء بطبعه ويقع له العلم بالبديهة في أول وهلة وهذه الصفة حينما تتوفر في الانسان فإنه كما يعبر عنه جابر يكون: مبتدعاً للاشياء من نفسه في أول الامر بطباعه ويضرب جابر مثلاً على ذلك سقراط الحكيم فيقول: ان من كان هذا سبيله هو سقراط الحكيم فإنهم لا يشكون ان كثيراً من العلم وقع له بقليل الرياضة وان ذلك بالطباع، كما يستعرض جابر ثلاثة مذاهب في مصادر العلم بالتفصيل وهي العلم بالفطرة والعلم بالتلقين وثالث يأخذ دوراً وساطً بينهما وهو استعداد المتعلم للتلقي وتهيؤ لقبول العلم وهو الذي اعتمده جابر في أخذه العلم موضحاً ان: النفس لا تكون عالمة اولاً بالضرورة وهي: قادرة فاعلة جاهلة لكنها حينما يكون لديها الاستعداد لتلقي العلم من خلال قدرتها وفاعليتها تستطيع أن تحول العوامل الخارجية عن طريق الحواس فتخط عليها آثارها ومن هذه الآثار المخطوطة يتكون علم الانسان ومن بين العوامل الخارجية بل من أهمها هو المعلم والوالدان هما بمثابة المعلمَين فهؤلاء يلقنون الناشيء بما يكوّن له نفسه على الصورة التي يريدونها له لذلك كان جابر يعطي استاذه منزلة عظيمة من نفسه ويكن له من اجلْ الاحترام فلا يخاطبه إلا بلقب سيدي وقد افرد المقالة الاولى من كتاب (البحث) عن ما يجب أن تكون العلاقة بين الاستاذ والتلميذ وهي مقالة عظيمة أوضح فيها ما يجب للاستاذ على التلميذ وما يجب على التلميذ للاستاذ ونورد مقاطع منها لما تضمنته تعاليم وآداب رائعة في مجال التربية: فمنزلة الاستاذ عند جابر هي منزلة العلم نفسه ومخالف العلم مخالف الصواب والاستاذ هو كالإمام للجماعة، وينبغي للتلميذ أن يكون صامتاً للاستاذ كتوماً لسره.. وواجب التلميذ ايضاً ان يكون منقطعاً الى الاستاذ دائم الدرس لما اخذه عنه كثير الفكر فليس في وسع الاستاذ إلا ان يعلّم تلميذه اصول العلم وعلى التلميذ بعد ذلك أن يروّض نفسه على ما قد تعلّم اما يجب للتلميذ على الاستاذ أن يمتحن الاستاذ قريحة المتعلم وأعني بالقريحة جوهر المتعلم الذي طبع عليه ومقدار ما فيه من القبول والاصغاء الى الادب اذا سمعه.

ونلخص منهجه في التعلّم والتعليم والعلاقة بين الاستاذ والتلميذ بأن الاستاذ يجب أن يكون مؤهلاً وان يتوفر في التلميذ الاستعداد الفطري للتلقي وليس هذا فحسب فقد وضع منهجاً للعلماء أوضح فيه مالهم وما عليهم في التعليم ومن شروط هذا المنهج قوله: فواجب العلماء أن يتكتموا علمهم فلا يكشفوه إلا في الظروف الملائمة وللاشخاص الذين يستحقونه ويطيقونه ويستطيعون حمله بما يتفق وكرامته لأنك اذا صببت في انسان علماً اكثر مما يطيق كنت كمن يضع في اناء اكثر مما يسع فيذهب الامر هباء لا بل انك لتزهق ذلك الانسان وتحرقه بما تحمّله اياه من علم يعجز عن حمله.

وكان جابر شديد الالتزام بهذا المنهج ويلزمه على من يعلمه، فقد روى الجلدكي في(شرح المكتسب): ان تلميذاً اراد التعلم والاخذ عنه فماطله جابر وراوغه فلما أصر التلميذ ولم يتحول عن طلبه قال جابر: إنما أردت أن اختبرك وأعلم حقيقة مكان الادراك منك ولتكن من اهل هذا العلم على حذر ممن يأخذه عنك واعلم ان من المفترض علينا (أي على رجال الكيمياء) كتمان هذا العلم وتحريم اذاعته لغير المستحق من بني نوعنا وألاّ نكتمه عن أهله لأن وضع الاشياء في محالها من الامور الواجبة ولأن في اذاعته خراب العالم وفي كتمانه عن اهله تضييعاً لهم.

فجابر هنا يوضح منهجه ويلتزم به ويلزم به من يعلمه هذا العلم وهو كتمان هذا العلم إلاّ على من يستحقه وهذا المنهج ينفي نفياً قاطعاً الرواية التي تقول ان جابر بن حيان أفضى بأسراره الى هارون الرشيد والى يحيى البرمكي وابنيه الفضل وجعفر.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 10/تموز/2012 - 19/شعبان/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م