عراقي مجنون يحلم بالسعادة!؟

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: ضمن باقة الرسائل التي توزعها شبكة زين على مشتركيها هذه الرسالة (لا تفوّت الفرصة، احصل على اكبر تخفيض للمكالمات ضمن شبكة زين خلال النهار، ديناران للثانية، وخلال الليل نصف دينار للثانية لاول ثلاث دقائق من المكالمة ومن ثم ربع دينار للثانية)، وفي رسالة اخرى (5 عليك و20 علينا.. يوميا ارسل خمس رسائل واحصل على 20 رسالة مجانية ضمن زين تمتع بها في نفس اليوم).

اما شبكة اسيا سيل فرسالتها على الشكل التالي (باقات سوبر تمح اكثر من 50 بالمائة لكل الشبكات سوبر 60 وسوبر 250 وسوبر 500)، اضافة الى رسائل اخرى تركز على مقدار الدقائق المجانية او الرسائل التي يحصل عليها المشترك، اذا ضغط على عدد من ازرار الموبايل واراد الاشتراك فيها وصدق تلك الوعود، الفئات المستهدفة من هذه الرسائل هي فئة المراهقين والشباب الذين يلجؤون عادة الى كثرة الحديث والى ارسال الرسائل النصية القصيرة لاصدقائهم او صديقاتهم.

تدخل عدة دوافع بالنسبة لشركات الاتصالات لارسال مثل هذه الرسائل، وهي دوافع تجارية بحتة يمكن لمسها عبر لغة الارقام.. ولا يهمنا في هذه السطور تلك الدوافع او الارقام الواقعية، بل ما يهمنا هو الجانب الخفي لهذه الرسائل، وهو جانب نفسي لا شعوري واعني به تسويق الحلم او الوهم، وهو هنا حلم او وهم السعادة التي يحصل عليها المشترك ويلبي حاجة من الفرح والمسرة في داخله.

والامر ليس مقتصرا على الشبكات العراقية بل يتعداه الى جميع البلدان التي توفر الخدمات الاتصالية لمشتركيها، مع تفاوت في مقدار الوهم بالسعادة او السعادة الحفيقية لتلك الشبكات والبلدان..

وهذه السطور ليست معنية بتلك البلدان، بل يهمها العراق تحديدا... قالتْ لجنة الصحة والبيئة البرلمانية ان 17% من الشعب العراقي مصاب بامراض نفسية، في وقت اكدت فيه وزارة الصحة تسجيل اكثر من 100 الف مصاب بامراض نفسية العام الماضي بسبب الحروب والعنف الجنسي.وقال النائب ووزير الصحة السابق صالح الحسناوي: ان (الامراض النفسية في العراق متعددة وبازدياد نتيجة الوصمة الاجتماعية لهذا المرض).

واشار الى ان (احدث احصائية لوزارة الصحة بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية بينت ان 17.03% من الشعب العراقي فوق سن الـ "15" يعاني الامراض النفسية خلال مسح شمل 5 الاف عائلة في عموم العراق، وتبين إن النساء هم اعلى نسبة من الرجال).

واوضح الحسناوي ان (زيادة الامراض النفسية في العراق تعود الى الوصمة الاجتماعية لهذا المرض ونظرة المجتمع العراقي الى المصاب بانه مجنون ويجب ابعاده عن المجتمع ولا يحق له ممارسة اي نوع من النشاطات الاجتماعية)، مبينا ان (هذه النظرة تدفع الغالبية العظمى من المرضى النفسيين عدم الابلاغ عن مرضهم ورفض الذهاب الى اية مؤسسة صحية ما يؤدي الى زيادة حدة المرض، وهذا غير موجود في كل دول العالم).

واضاف وزير الصحة السابق ان (ابرز اسباب الامراض النفسية في العراق هي الحروب ومشاهد العنف والمشاكل الاجتماعية والجانب الوراثي والتنشئة في الطفولة والنظام الغذائي والممارسات الاجتماعية غير الصحية كالتدخين والممارسات الجنسية غير المنتظمة واضطراب النوم).

وبحسب الارتباطات الاجتماعية للمصابين (العائلة – المدرسة – مكان العمل) يمكننا القول ان تاثير تلك الامراض تشمل ما لا يقل عن نصف عدد السكان اي خمسين بالمائة، اذا اخذنا بنظر الاعتبار ان كل واحد من هؤلاء المرضى يتعامل بصورة مستمرة مع اثنين من عدد السكان الكلي، وهي نسبة تعد كبيرة جدا مقارنة بعدد السكان.

وهي نفس النسبة التي تضمنتها دراسة اجتماعية قام بها الطالب نوري الخفاجي في جامعة بابل وذكر فيها ان نحو خمسين بالمائة من العراقيين مصابون بأمراض نفسية متنوعة، من كآبة، وارهاق نفسي، وسرعة الغضب، والتعامل بعنف مع الاحداث اليومية، اضافة الى قلق مستمر، والخوف من المستقبل، وعدم الشعور بالامان.

والدراسة، هي بحث استقصائي، جمع فيه الباحث بيانات لأكثر من ألفي مواطن من مختلف المدن العراقية، ومن مختلف المستويات التعليمية والاكاديمية اضافة الى مختلف الطبقات الاجتماعية.

ويقول الباحث ان اهم ما يشعر به المواطن العراقي اليوم هو القلق من المستقبل بسبب الحروب التي مر بها العراق وعدم استتباب الوضع الامني والسياسي والاقتصادي، حيث تتناوب التغيرات على المجتمع العراقي لفترات زمنية قصيرة لا تتجاوز العشر سنوات، ثم يتغير كل شيء.

حين يتوسد نعاسه، لا شيء تحته غير فراش رث، ووسادة نتف الاطفال قطنها.. حين ينقطع تيار الكهرباء، ومعه نسمات مبردة برفاب الايرانية، يدحرج جسده على ارضية الغرفة العارية، انها باردة ومنعشة، انه يحلم ببرودة مستمرة تتغلغل حتى عظامه، انه يحلم بالسعادة..

حين يذهب الى عمله صباحا، يفكر كثيرا بهذا الطريق الذي يقطعه كل يوم، حيث الحرارة اللافحة منذ الساعات الاولى لصباحاته، وحيث الازدحامات التي تشعل غضبه، وحيث نقاط التفتيش التي لازالت متمسكة بجهاز سونارها الخائب، رغم سجن من استورده بسبب خيباته المتكررة في القبض على المتفجرات، انه يحلم بعبور آمن لجسده وسط اختناقات المرور، ويحلم بسير سلس دون توقف عند لافتات تحمل كلمات (القانون فوق الجميع) او (احترم تحترم) او (الكلمة الطيبة صدقة)، انه يحلم بعدم انزال زجاج سيارته عند كل نقطة تفتيش تحت طائلة عدم احترام من هم في الواجب، انه حلم بسيط كي يشعر بالسعادة..

انه يحلم بمستشفيات نظيفة لا وجود فيها لأكشاك التكة والكباب، يحلم بمدارس يتعلم فيها ابناؤه على اجهزة الحاسوب المهداة من منظمات عالمية دون استبدال اجزائها الداخلية الجديدة بأخرى مستعملة، انه يحلم بالخضرة تمتد على يمينه او يساره حين يسير في طرقات المدينة، وهو يحلم برغيف خبز تام النضج حين يشتريه من الافران، وهو يحلم ويحلم ومثله الملايين كل يوم حيث يعبر الحلم جميع الطرقات ويصير بحجم وطن اسمه العراق.

حلم مثل هذا يستحيل الى وهم او سراب، وهو يصبح مجنونا لكثرة تشبثه باوهام او سراب، ولا مسافة تفصل بين المجنون والحالم الا قدر شعرة تنقطع اذا حاول احدهما سحبها اليه.. الى متى يظل العراقي المجنون يحلم بالسعادة؟

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 9/تموز/2012 - 18/شعبان/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م