لا تَظْلِمُوا ثَوّرَةَ العِشرِينْ

محمد جواد سنبه

(إكذوبة إسمها ثورة العشرين!) و(ثـــورة العشرين عار الحضارة الاول)، مقالان قرأتهما على صفحة موقع مجلّة (سطور) الإلكترونية بتاريخ 1 تموز 2012. المقال الأوّل كتبه هادي جلو مرعي، والمقال الثاني كتبه عباس الحسيني. وما أثار دهشتي أنّ كاتبي المقالان، تناولا موضوع ثوّرة العشرين، بإسلوب لا يليق بالتاريخ الوطني العراقي. فحقّروا فيه الثوّرة ورجالها، بسبب ثورتهم على القوات البريطانيّة. وما يزيد الألم، أنّ الكاتبين لمّ يتناولا موضوع ثوّرة العشرين، كحادثة تاريخيّة، لها انعكاساتها على السّياسة البريطانيّة، وعلى مستقبل العراق السّياسي أيضاً، عن طريق دراسة الوثائق ومراجعة المصادر ومقارنة الوقائع، والخروج باستنتاج علميّ، يدين الثوّرة أو يثني عليها، فلا بأس من ذلك فإنّه من متطلبات البحث العلمي.

المقتبسان التّاليان من المقالين، يعكسان هذا التحامل غير المبرر على الثوّرة. الاقتباس الأوّل من المقال الأوّل هو: (هي إنتفاضة عشائر أو لنقل ثورة عشائر عاضدها علماء دين وبعض المثقفين الذين كان في البلاد منهم القليل حينها، وقد قمعت بشدة وكان من نتائجها تكريس الإحتلال البريطاني الذي أدى الى بعض المنجزات نحو صناعة المدينة وتأسيس لأحزاب وصحافة وتعبيد لطرق وبناء شبكة إتصالات، وقطارات لم تكن معروفة من قبل إستمرت حتى إنقلاب العسكر الحمقى 1958 حين دمرت الحياة الدستورية بالكامل).

أمّا الاقتباس الثاني من المقال الثاني هو: (ثاروا في ثورة العشرين على الانكليز، الذين بنوا الجسور كلها في بغداد،.... ثاروا على الانكليز لانهم شقوا الطرق وحرسوها وخلصوا الناس من السطو والتسليب على طرق العراق - ثاروا على الانكليز لانهم بنوا سكك الحديد للنقل والسياحة والترويح، ثاروا على الانكليز الذي بنوا كليات الطب... ثاروا على الانكليز الذين مهدوا لإقامة حكم عراقي ملكي حقيقي بدستور.... ثاروا على الانكليز لان الانكليز بنوا معاهد للبريد والبرق والهاتف المربوط بلندن والعالم، ثاروا على الإنكليز لانهم رعـــاة لا يفقهون غير لغة المكوار والتوثية والاقطاع والمشيخة الزائفة والعشيرة المتعجرفة، ثاروا على الانكليز لان الانكليز اعترفوا بحضارتنا وبنوا المتاحف وحللوا لغات السومريين والبابليين... ثاروا على الانكليز لانهم شعب يكره التحضــر والارتقاء والتحول والاندمــاج.... ثاروا على الانكليز لانهم فضلوا الضرب والاهانة والتمييز والطائفية..... ثاروا على الانكليز لان شيخ العشيرة الذي لا يجيد تنظيف مؤخرته....الخ).

إنّ الشعوب الواعية تعتزّ بتاريخها الوطنيّ، إيماناً منها بأنّ من لا تاريخ له فلا تجربة له. ومن لا يفهم التاريخ لا يفهم الواقع. فتاريخ الشّعوب يشكّل خلاصة لتجربة إنسانيّة ثرّة، تحتفظ بالدّروس العميقة التي لا تخلو من فائدة، وإنْ لم يكن الأمر كذلك، لما حرص الإنسان في كلّ زمان ومكان، على تدوين التاريخ والاعتناء به. ففي كلّ عام تقدّم عشرات البحوث في الجامعات الأمريكيّة، تبحث في موضوع الحرب الأهليّة الأمريكيّة (1861- 1865م). وذا (هنري كيسنجر) وزير خارجيّة أمريكا الأسبق، الذي كتب اطروحته (درب السلام الصعب) لنيل درجة الدّكتوراه، وكان موضوعها تحليل تاريخيّ لشخصيتيّن سياسيتيّن، لعبتا دوراً في استقرار أوربا، للمئة عام التي سبقت الحرب العالميّة الأولى، هما وزير خارجية المانيا (مترنيخ 1773- 1859م) ووزير خارجيّة بريطانيا (كاستلري 1812- 1822م).

وبالوقت الذي أشفق فيه على الكاتبيّن، لأنّهما لمّ يدرسا تاريخ ثوّرة العشرين بشكّل معمّق، فإنّي أقدم لهما بعض المعلومات عن الثوّرة، التي استقيتها من كتابي (تاريخ العراق السياسي الحديث /ج1، وأحداث عاصرتها، للسيد عبد الرزاق الحسني). لعلّ هذه المعلومات، تسهم في تصحيح مفاهيم هذين الكاتبين أو غيرهما، من الّذين لا يهتمّون بتاريخ ثوّرة العشرين، فأقول:

1. إنّ ثوّرة العشرين لم تكن ثوّرة عشائر أو ثوّرة طائشة، وإنّما كانت ثمرة لطليعة مثقّفة واعية، رفضت الوصاية البريطانيّة على العراق. فعندما أراد البريطانيون إجراء استفتاء شعبي (صُوريّ)، ليخدعوا العراقيّين بنتائجه المزيّفة، هبّت الشخصيات الواعية لإفشال هذه المحاولة البريطانيّة البائسة. (واستفتى احد فتيان كربلاء المرجع الديني المطاع الشيخ محمد تقي الحائري في جواز انتخاب غير المسلم للامارة والسلطنة على المسلمين، فأصدر الإمام المشار إليه هذه الفتوى: ليس لأحد من المسلمين أن ينتخب ويختار غير المسلم للامارة والسلطنة على المسلمين.). (تاريخ العراق السياسي الحديث/ السيد عبد الرزاق الحسني/ ص130).

2. إنّ القطارات والمستشفيات والجسور التي شيّدها الإنكليز، لم تكن لخدمة الشّعب العراقيّ، وانّما كانت لدعم المجهود الحربي، لضمان تقدم قوّات الإحتلال، وإحكام سيّطرتها على الأراضي العراقيّة. أمّا الآثار العراقيّة فلم يكفّ البريطانيون عن سرقتها وتهريبها وبيّعها، أو تحويلها إلى المتّحف البريطانيّ الذي بات يحوي في أروقته، آلاف القطع الأثريّة المسروقة من العراق. وقصة تخريب زقّورة عقرقوف معروفة، حيث حاول أحد الضباط البريطانيين، الكشف عن الكنوز الموجودة داخل الزقّورة، فبدأ بالحفّر في هيكل الزقّورة دون علم ومعرفة بالتنّقيب، مما أدى إلى تهديم جانب كبير من الزقّورة.

3. ثوّرة العشرين هي التي مهّدت للحكم الملكي الدّستوري، وليس العكس، كما ذهب إليّه كاتب المقال الأوّل. وبريطانيا كانت تريد بقاء العراق تحت الانتداب البريطاني، ويحكمه المندوب السامي عن الحكومة البريطانيّة.

4. دور العشائر العراقيّة في حسم الموّقف عسكرياً، كان نتيجة للعمل الثوّري الذي قام به أبناء العراق المثقفين الواعين، من أصحاب العزيمة والرأي، وهذا التحضير سبق الثورة بعامين.

ولعمري لو أنّ الكاتبيّن تطرقا للنتائج السياسيّة لما بعد الثوّرة وأثرها على المجتمع العراقي، سواءً كانت تلك النتائج ايجابيّة أو سلبيّة، لكانا قد حقّقا فائدة جليلة للقرّاء. وأودّ أنْ أنبّه الجميع، بأنّ ثقافة الإستسلام والركوع للمسّتعمرين والمحتلّين، والشّعور بالانهزام والدّونيّة، هو جزء من حرّب نفسيّة، يسعى أعداء الشّعوب غرسها في نفوسنا، ومن ثمّ نؤمن بها كمسلّمات وثوابت، لتصبح جزءاً من قناعاتنا الذاتيّة، وبالتالي المباشرة بتعميمها على أفراد المجتمع كلّه، لتستحّكم حلقات الضّغط علينا، حتى نفقد الثّقة بأنفسنا وإمكانيّاتنا، وبالأمل في تحقيق النجاح والتطوّر، وفي مواصلة العمل من أجل تغيير واقعنا المتخلّف، عن ركب التقدم والإزدهار.

* كاتب وباحث عراقي

mjsunbah1@gmail.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 8/تموز/2012 - 17/شعبان/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م