الوفاء – او يشبه الوفاء – في العلاقات الزوجية موجود لدى
الحيوانات، مثلما هو موجود لدى البشر، حيث تكون مشاركة الذكور ضرورية
لتنشئة الصغار، بقصد المحافظة على النوع. فالطيور مثلا عليها ان ترقد
على البيض باستمرار، كي تضمن لها الدفء اللازم. وفي الوقت نفسه لابد
لها من ساعات طويلة من البحث كل يوم على قوتها. وهذان العملان
الضروريان يستحيل ان يقوم بهما طائر واحد، ومن ثم كان تعاون الذكر امرا
لا مناص منه. وترتب على هذا ان الطيور صارت نماذج مثلى للفضيلة الاسرية
او الوفاء الجنسي.
القى فيض قوي من الضوء على سيكولوجية الابوة عندما نشر "مالينوفسكي"
كتبه عن اهالي جزر "تروبرياند". واهم هذه الكتب ثلاثة بوجه خاص، هي:
1.) الجنس والكبت في المجتمع البدائي،
2.) الوالد في سيكولوجيا البدائيين،
3.) الحياة الجنسية في شمال غرب مالينيزيا.
ان اهالي مالينيزيا لا يعرفون ان للناس اباء (فكل ما يعرفونه ان لهم
امهات)، ولكن الاباء عندهم لهم غرام بأطفالهم يعادل على الاقل غرام
الاباء الذين يعلمون انهم اباء اطفالهم عن يقين.
بل ان هناك ما هو اشد من هذا دلالة على ذلك الجهل، وهو ان رجلا كان
يملك قطيعا ممتازا من الخنازير، ورأى الأوربيين يخصون ذكور الخنازير
فتسمن برعة، فلم يتردد في خصاء جميع ذكور قطيعه، ثم عجز تماما عن فهم
ذرية خنازيه (وعزا ذلك لغضب الارواح!).
ان الابوة البشرية التي تبدو لاول مرة وهلة مفتقرة الى اساس حيوي (بيولوجي)،
يمكن ان تكون ذات جذور عميقة من حيث الحاجة العضوية.
ان التنظيم الملكي والارستقراطي للمجتمع، ونظام المواريث، موجودا في
كل مكان من العالم المتحضر على اساس السلطة الابوة. وفي البداية ساندت
هذا النظام بواعث اقتصادية. ويطالع المرء في سفر التكوين (اول اسفار
التكوين) كيف كان الناس يتمنون الذرية الكثيرة العدد، وكيف كان تحقق
ذلك لهم يعود عليهم بالفوائد والمزايا. فكثرة الابناء تساوق عندهم كثرة
القطعان من الاغنام والماشية، وكثرة الرعاة لهذه القطعان. وهذا هو
السبب في ان "ياهو" (اي الله في التوراة) كان يأمر الناس ان يتناسلوا
ويتكاثروا.
وتجد تلخيصا جيدا جد لابرز الحقائق فهذا الموضوع، فصل كتبه "روبرت
بربفولت" في كتابه "الجنس في الحضارة البشرية" المنشور في مطبوعه جورج
الف وانوين حيث يقول في صفحة 34:
"الاعياد الزراعية، ولا سيما تلك الاعياد المتعلقة بالغرس والبذر
وجني المحصول، تمثل في كل مناطق العالم، وفي كل عصر من العصور اقصى
مظاهر الاباحة الجنسية الشاملة... فقدماء اهل الجزائر الزراعيون يرفضون
اي قيد على اباحية نسائهم على اساس ان اي محاولة لفرض الاخلاقيات
الجنسية عليهن من شأنه ان يضر او يعوق نجاح عملياتهم الزراعية. واعياد
البذور في اثينا القديمة احتفظت في صورة مخففة بالطابع القديم لمراسيم
الخصوبة السحرية. فكانت النساء تحمل رموزا مشخصة لعضو تناسل الرجل وهن
يتفوهن بعبارات بذيئة – ولم تلبث هذه المرحلة ان انقضت ثم تحول العنصر
الجنسي في العصور المصرية القديمة التالية الى عبادة الذكر او القضب
(عضو تناسل الرجل) – واعياد البذور في روما القديمة كذلك، وقد تخلفت
عنها المهارج (الكرنفالات) في اوربا الجنوبية، حيث كانت تماثيل عضو
التذكير – التي تكاد تختلف عن مثيلاتها في دوهومي – من السمات البارزة
لتلك الاحتفالات حتى السنوات الاخيرة.
وفي اجزاء كثيرة من العالم كان المعتقد ان القمر (وهو مذكر عندهم
وليس مؤنثا كما هو الحال في بعض اللغات الاوربية) هو الاب الحقيقي
لجميع الاطفال. وقد ذكر بربفولت في كتابه السابق (ص. 37) ان اهالي
ماووري يعتقدون ان القمر هو الزوج الحقيقي لكل النساء وليس مهما طبقا
لما انحدر اليهم عن اسلافهم – ان يعقد زواج الرجل بالمرأة، لان القمر
على كل حال هو الزوج الحقيقي. وقد وجدت عقائد شبيهة بهذا في معظم انحاء
العالم، وهي تمثل بوضوح المرحلة الوسطى الانتقالية بين عصر كانت فيه
الابوة مجهولة تماما، وبين العصر الذي اكتسبت فيه الابوة اهميتها
الكاملة.
وهذا الاعتقاد مرتبط بطبيعة الحال بعبادة القمر. وكان ثمة صراع غير
ذي صلة مباشرة بموضوعنا هذا، بين كهنة القمر وكهنة الشمس. وكذلك، بين
التقويم القمري والتقويم الشمسي ولقد كان التقويم على الدوام ذا اهمية
كبيرة في الاديان المختلفة. ففي انجلترا حتى القرن الثامن عشر، وفي
روسيا حتى ثورة عام 1917 ظل التقويم القمري غير الدقيق معمولا به على
اساس ان التقويم الجريجوري بابوي كاثوليكي، وبالتالي فهو مرفوض. وكذلك
التقويم القمري غير الدقيق ظل محل التأييد في كل مكان من جانب كهنة
القمر، وكان انتصار التقويم الشمسي بطيئا ومتدرجا. وقد وصل الامر الى
نشوب حرب اهلية بسببه في وقت من الاوقات في مصر القديمة.
ونجد لدى اليهود نحلة "الاسينيين" يعدون كل اتصال جنسي دنسا، ويبدو
ان هذه النظرة كسبت لنفسها انصارا حتى في اشد الاوساط عداء للمسيحية.
وكان في الامبراطورية الرومانية اتجاه عام نحو التقشف. وكانت البيقورية
قد ماتت تقريبا وحلت محلها الرواقية بين المثقفين الاغريق والرومان.
وفي "الابوكريفا" ما يشبه الرهبنة بإزاء النساء، وهذا امر ما بين اشد
المباينة لما هو ظاهر في اسفار العهد القديم من تحبيذ الذكورة. وكان
الأفلاطونيون الجدد يكادون يضارعون المسيحين في التقشف.
الارهاق الجنسي ظاهرة احدثتها الحضارة، ولابد انها مجهولة لدى
الحيوانات، ونادرة الحدوث جدا لدى غير المتحضرين من البشر.
ونجد الرجال في مسرحيات شكسبير مثلا لا يريدون من نسائهم ان يكن
مقادات العاطفة، فالمرأة المثلى – عند شكسبير – هي التي تنقاد لرغبة
زوجها بدافع الواجب، ولكنها لا تفكر ابدا في اتخاذ عشيق، لان الجنس بحد
ذاته بغيض اليها غير محبب، وهي تطيقه او تتجلد له لان القانون الخلقي
يأمرها بهذا. اما الزوج الغريزي فمتى اكتشف ان زوجته خانته، امتلأ
بالتقزز منها ومن عشيقها على السواء وهو عندئذ خليق ان يخرج من هذا
الاحساس بأن الجنس كله مسألة بهيمية. ولا سيما اذا كان قد وصل الى
العنة او العجز بحكم التقدم في السن.
باختصار، يقول القديس بولس في رسالته الاولى الى قورنتس الاتي: "لا
سلطة للمرأة على جسدها فأنها هو لزوجها، وكذلك الزوج لا سلطة له على
جسده فأنما هو لامرأته".
اما نظرة البروتستانتية الى هذا الموضوع فمختلفة بعض الشيء، فهي اقل
قسوة وتسددا من الناحية النظرية، ولكنها من الناحية العملية ربما كانت
امعن في التشدد. فمارتن لوثر تأثر كثيرا بقول بولس "ان تتزوج خير من
تحترق بنار الشهوة". وكان في الوقت نفسه عاشقا لراهبة، ومن هذا استنتج
انه برغم تعهدات الرهبنة او العزوبة، يحل لهما بناء على هذا النص ان
يتزوجا، لانه بدون ذلك يتعرض للتحرق بالشهوة، ويقع عندئذ في الخطيئة او
الاثم.
ومنذ ذلك الحين نبذت البروتستانتية العزوبة او الرهبنة، التي كانت
موضع الثناء لدى الكنيسة الكاثوليكية. وفي كثير من النحل نجدها ايضا
نبذت القول بقدسية الزواج، وأباحت الطلاق في بعض الاحوال. ولكن
البروتستانت اشد استهوالا من الكاثوليك للفسق، ولذا فهم اشد منهم نكيرا
وتزمتا خلقيا. فالكنيسة الكاثوليكية توقعت الخطيئة وسنت الاعتراف
والتوبة والكفارة والغفران على يد الكاهن. اما البروتستانت فلا اعتراف
لديهم ولا غفران. وهكذا يجد الخاطئ او الأثم نفسه في وضع ادهى وانكى من
وضعه عند الكاثوليك بكثير...
وطبيعي ان هذه الاخلاقيات الكاثوليكية و البروتستانتية – برغم
تأكيدها على العفة الجنسية – هبطت كثيرا بمكانة المرأة. اذ لما كان
جميع الاخلاقيين والوعاظ رجالا، لذا بدت لهم المرأة مصدر ورمز الغواية،
ولو انقلب الوضع وكان الاخلاقيون نساء، لاختصوا الذكور بهذه النعوت...
وبما ان المرأة هي مصدر الغواية، فلابد اذن من تقليل الفرص التي
تتيح لها نفت سموم غوايتها للرجال المساكين، وبالتالي فرضت على النساء
المحترمات قيود وحدود كثيرة، لا تفرض على غيرهن من النساء.
ولم تسترد المرأة الا في السنوات الاخيرة تلك الحرية التي تمتعت بها
جدتها في الدولة الرومانية. ونحن نعلم ان النظام الابوي تسبب في الوان
كثيرة من عبودية المرأة في العالم القديم، ولكنها افلحت في التحرر من
معظم هذه القيود قبل ظهور المسيحية مباشرة. وبعد ان صارت المسيحية
الديانة الرسمية للامبراطورية الرومانية، اعاد قسطنطين تقيد حرية
المرأة، تحت ستار حمايتها من الخطيئة. ولم تستعد المرأة الحديثة حريتها
الا بعد ان زالت سطوة الإثم والخطيئة على العقول في العصر الحديث. |