العشوائيات... ظاهرة لا تستثني مدينة!

كمال عبيد

 

شبكة النبأ: تعيش شريحة كبيرة من الناس حول العالم سلسلة من المعاناة المتواصلة لتأمين أبسط متطلبات المعيشة، والتي تفتقر لأبجديات الحياة البسيطة، حيث يخوضون هؤلاء الناس غمار واقع التحديات الحياتية الشاقة، التي يعيشونها بشكل يومي، في مناطق تسمى بالعشوائيات وهي مجموعة من الأحياء الفقيرة والمعدمة اقتصاديا، تمتلك منازل غير شرعية ولا تملك لها أي صكوك، وينتشر هناك الجريمة والتسول، فيما سيبلغ عدد سكان مدن الصفيح في العالم 1,4 مليار نسمة في 2020 اي ما يساوي عدد سكان الصين بحسب ا منظمة تابعة للامم المتحدة، إذ يلعب الفقر والحرمان وفقدان العناية والاهتمام دورا كبيرا في انتشار العنف والجريمة في تلك المناطق وكذلك استغلال الشباب من قبل عصابات المافيا والارهاب التي تزرع فيهم حب الانتقام والقتل والدمار والافكار المتطرفة بحيث تتفشى الفوضى والرعب، وغالبا ما يصفون سكانها بالمتطرفون، متخلفون، هاربون من القانون، فهذه بعض الصفات التي تُطلَق على سكان العشوائيات، دون أن ينصفهم أحد بالتذكير بأن واقعهم المتخلّف هو نتاج لسياسات حكومية فاشلة انتهجت اهمالهم وغض الطرف عمّا يعانيه هؤلاء من بؤس وشقاء وصعوبات في العيش على مدى عقود عديدة.

وتتمثل ظاهرة نشوء المناطق العشوائية في قيام شريحة من المجتمع بأخذ المبادرة وحل مشكلاتها الإسكانية بمفردها خارج نطاق الجهات المختصة وبعيداً عن نفوذها أو تدخلها ويتم ذلك بإمكانيتها المادية والثقافية المحدودة مما ينتج عن ذلك بيئة عمرانية غير مقبولة من كافة النواحي حيث ينقصها الكثير من القيم والمبادئ المعمارية والبيئية والتخطيطية السليمة. غالبا ما تفتقر إلى المرافق الصحية المناسبة ، والكهرباء أو الهاتف، ومن أهم مواقع  مدن الصفيح في العالم  إندونيسيا، الهند، جنوب الصين جنوب إفريقيا وغيرها الكثير من مدن الصفيح التي توجد غالبا في الدول النامية.

السياحة في مدن الصفيح

في سياق متصل يشرح أحد السياح وهو يشق طريقه وسط المياه القذرة والنفايات "أريد أن أرى جاكارتا على حقيقتها"... ففي إندونيسيا، تتولى منظمة غير حكومية تنظيم زيارات في مدن الصفيح وتقدم عائدات أنشطتها إلى السكان، في إطار ما تعتبره المنظمة مساعدة إنمائية ويسميه البعض الآخر تطفلا، على بعد أقل من متر من السكة الحديدية، تتراصف الاكواخ في فوضى منظمة لتنحصر في أصغر مساحة بين السكة الحديدية وسياج من الاسمنت يرسم حدود المدينة "الرسمية". وقد علق لحاف من البلاستيك الأزرق بين بضعة ألواح خشبية يحتمي تحته من الأمطار رجل يرتدي سروالا باليا يجلس على فراش لم يعد يعرف لونه، هكذا تتكدس مئات الاسر في حي تاناه أبانغ الذي يبعد بضع دقائق عن المراكز التجارية الفاخرة حيث يتنازع الأثرياء الجدد الذين اغتنوا بفضل المعجزة الاقتصادية الإندونيسية على أحدث تصاميم "غوتشي" و"لوي فويتون"، في ممر موحل، تلتقط فتاة صغيرة على رأسها بثرات صفراء زجاجة عصير فارغة وتلحسها بحثا عن طعم حلو. وبالقرب منها، تغسل أم طفلها في قدر بلاستيكي مثقوب وضع بين سكتين، روحايزاد أبو بكر هو سائح من سنغافورة في الثامنة والعشرين من العمر لا يصدق ما تراه عيناه، ويقول "أردت أن أرى جاكارتا على حقيقتها". وقد اختار موظف المصرف هذا ان يمضي عطلته في جاكارتا وينضم إلى الجولات التي تنظمها منظمة "جاكارتا هيدين تورز" ليرى الوجه الآخر للمدينة الذي لا يظهر على البطاقات البريدية، ويشرح مخرج الأفلام الوثائقية الإندونيسي روني بولوان (59 عاما) الذي أسس هذه المنظمة التي لا تبغى الربح "نحن نكشف الوجه الحقيقي لجاكارتا". ومنذ تأسيس المنظمة، ازدهرت "سياحة البؤس" من مدن الصفيح في البرازيل إلى تلك الموجودة في مومباي والتي سلط عليها الضوء فيلم "سلامدوغ مليونير". ويقول روني "يزداد عدد السياح الذين يقصدوننا وهم ليسوا فحسب من المغامرين بل أيضا رجال أعمال ومصارف"، يعيش سكان مدن الصفيح بأقل من دولارين في اليوم، شأنهم في ذلك شأن نصف الإندونيسيين، ويؤكد روني أن الزيارات تنظم من أجلهم. فكل سائح يدفع 500 ألف روبية إندونيسية (42 يورو) يعود نصفها إلى الجمعية، في حين يستخدم النصف الآخر لدفع الزيارات الطبية او تمويل المشاريع الصغرى وتشييد المدارس. بحسب فرانس برس.

ويشرح روني قائلا "لا أعطي أبدا الأموال نقدا، فأنا أدفع أجرة الطبيب مثلا"، لكن هذه التدابير كلها لا تكفي لطمأنة بعض المنظمات غير الحكومية. وتعتبر وردة حفيظة من جمعية "أوربن بور" التي تكافح من أجل احتواء مدن الصفيح في جاكارتا أنه "ينبغي ألا يعرض الفقر مثل القردة في حديقة الحيوانات". وصرحت "يجعلون (السكان) متسولين يعتمدون على المساعدة"، أما السكان، فهم يؤكدون أنه من دواعي سرورهم أن يعرفوا السياح على حياتهم اليومية. ويشرح دجوكو وهو رب أسرة في الخمسين من العمر يجلس أمام كومة من الزجاجات والأكواب البلاستيكية التي ينزع عنها اللاصقات ليبيعها إلى الجهات المعنية بإعادة التدوير "أحب الأجانب الذين يسعون إلى معرفة طريقة عيشنا"، ويؤكد السياح أنهم لا يتطفلون. وتقر الفرنسية كارولين بروجيه "لو لم أر الوضع بأم عيني، لما قمت بأي مبادرة". فبعد زيارة إلى مدن الصفيح، قررت هذه المدرسة التي تعيش في جاكارتا أن تتطوع لمساعدة روني على تحقيق حلمه واستحداث مدرسة متنقلة مخصصة للأطفال المحرومين من الدراسة. وتشدد الفرنسية على أن المبادرات من هذا القبيل تساهم في "رفع الوعي" وتقول "نحن هنا في قلب الحدث".     

ألكسندرا

فقد تميزت مدينة صفيح ألكسندرا في جوهانسبورغ بمقاومتها السلطات البيضاء وتحتفل هذه السنة بمرور مئة عام على تأسيسها، وهو حدث تعتزم هذه المدينة الصغيرة المكتظة التي عاش فيها نلسون مانديلا في شبابه الاستفادة منه لتستير مشاكلها الاجتماعية، لكن هل يجوز الاحتفال بينما تتألف ألكسندرا التي تضم 400 ألف نسمة على مساحة 7,6 كيلومترات مربعة من بيوت صفيح لا يتمتع معظمها بالمياه الجارية وبينما تقدر نسبة البطالة فيها ب 35%؟، يقول المؤرخ فيليب بونر مبتسما إن "صمود (ألكسندرا) هو سبب كاف للاحتفال"، فمدينة الصفيح هذه الواقعة شمالا على بعد 12 كيلومترا من وسط جوهانسبورغ أبصرت النور سنة 1912 عندما باع مزارع أراضيه للسود لأنه لم يجد شراة بيض. وكانت المدينة من الأماكن النادرة التي يملك فيها السود منازل باسمهم، وقد نمى هذا الواقع حس الاستقلالية والمقاومة لدى سكان المدينة الذين ما زالوا يفتخرون بوقوفهم في وجه السلطات التي كانت مصرة على التخلص من الجماعات السوداء المجاورة لضواحي البيض الأكثر ترفا، وقامت السلطات بتهجير عشرات آلاف السكان إلى مدن صفيح أخرى، أبرزها سويتو (على بعد 40 كيلومترا من ألكسندرا)، لكنها لم تنجح في تحقيق مبتغاها، وتقول سيلينا مبيسي التي تخطت المئة من العمر وجاءت إلى ألسكندرا قبل 74 عاما "أردت البقاء في ألكسندرا لأننا كنا نعمل في الأرض، بعكس سكان المدن الأخرى"، لكن الطابع الريفي الذي تميزت به المدينة في بداياتها قد زال تماما وباتت المنازل الأصلية شبه غائبة وسط بيوت الصفيح المكتظة التي يتجمع فيها عدد كبير من المهاجرين، ومن ألكسندرا بالذات انطلقت أعمال الشغب المعادية للأجانب التي هزت مدن الصفيح في جنوب افريقيا سنة 2008، وقبل ذلك ببعضة عقود، صنع سكان المدينة اسما أفضل لأنفسهم في التاريخ عندما قاطعوا مرارا وتكرار الباصات التي أرادت الجهات المسؤولة عنها زيادة تعرفتها، ما دفع السلطات البيضاء إلى الاستسلام، ويقول البروفسور بونر إنه خلال حملات المقاطعة في العامين 1943 و1944، "كان نلسون مانديلا يعيش في ألكسندرا وقال إن ما يحصل أثر فيه كثيرا وفتح عينيه سياسيا، ومنذ تلك اللحظة، لم يعد مراقبا بل مشاركا"، تغيرت ألكسندرا كثيرا منذ أن أقام فيها مانديلا بطل الحرب على الفصل العنصري، عندما وصل إلى جوهانسبورغ. بحسب فرانس برس.

وأطلقت الحكومة الجنوب إفريقي سنة 2001 خطة تحديث واسعة، فبنت آلاف المساكن وعبدت الطرقات وزودتها بالإنارة وأنشأت حديقة مكان مدينة صفيح كان أحد الأنهار يجرفها بانتظام عندما يفيض، وبعد أن كانت غالبية البيض تخشى دخول ألكسندرا، لم تعد هذه المدينة منطقة محظورة، ولكن على الرغم من تحسن الوضع، لا تزال ألكسندرا مدينة تتخبط في براثن الفقر وتتكدس فيها النفايات أمام المركز التجاري الجديد، خلافا لسويتو وهي مدينة صفيح أخرى في جوهانسبورغ يقصدها السياح، لكن الاحتفالات التي ستنظم على مدار السنة بمناسبة مرور مئة سنة على تأسيس ألكسندرا تتعرض للانتقادات، ويقول مفو موتسومي رئيس غرفة التجارة المحلية إن هذه الاحتفالات "هي في نظرنا فرصة لتغيير وجه ألسكندرا اجتماعيا واقتصاديا"، وهو يأمل أن تسمح الاحتفالات بتسليط الضوء على المدينة واستقطاب المستثمرين.

عشوائيات أفريقيا

من جانب أخر تعد الحياة في "كيبيرا" أكبر المناطق العشوائية في القارة الأفريقية، سلسلة من المعاناة المتواصلة لتأمين أبسط متطلبات المعيشة، ورغم افتقار المنطقة لإبجديات الحياة، إلا أنها تحتضن مدرسة لصناعة الأفلام، ويجسد المنتسبون إلى مدرسة "كيبيرا للسينما" معاناتهم اليومية بأفلام تعكس واقع الحياة في عالمهم الخاص في "كيبيرا"، وليفهم المشاهد تلك المقاطع عليه أولاً التعرف على واقع التحديات الحياتية الشاقة، التي يعيشونها بشكل يومي، ويقول رونالد أوموند، أحد سكان المنطقة وهو صانع أفلام، إن المدرسة تمنح المواهب الإبداعية المحلية متنفساً من المعاناة، وفرصة لسرد قصص من عالمهم الخاص إلى جمهور أوسع، وأنشئت "كيبيرا" منذ أكثر من قرن، كمستوطنة غير رسمية بمناطق الغابات خارج نيروبي، للجنود الذين حاربوا إلى جانب الاستعمار البريطاني، ومنذ ذلك الوقت توسعت بطريقة عشوائية غير مخططة، ويفتقر سكان المنطقة لإمدادات المياه والكهرباء، ويقومون بجمع احتياجاتهم من المياه النظيفة عند فيضان مياه السدود أثناء مواسم الأمطار، أو عند انفجار أحد أنابيب إمدادات المياه، كما يقومون بسرقة الخطوط الحكومية لإيصال الكهرباء إلى مساكنهم. بحسب السي ان ان.

وبيوت "كيبيرا" مبنية من خليط من الطين والخرسانة والخشب، لا توجد بها مراحيض في الداخل، فالمنطقة لا تصل إليها كذلك خدمات الصرف الصحي، ويقول أوموندي إن شظف الحياة فرض على سكان المنطقة العشوائية التكاتف، فالمعاناة مشتركة والهموم واحدة، ورغم التحديات اليومية للحياة في "كيبيرا" لكنها لم تكن عائقاً أمام السكان للتعبير عن أنفسهم، وعكس واقعهم عبر صناعة الأفلام التي أتاحتها المدرسة، التي أسسها صانع الأفلام الأمريكي، ناثان كوليت، عام 2009، بعد ثلاث سنوات من انتقاله إلى نيروبي، وأنتج كوليت، وبالتعاون مع سكان المنطقة، فيلم "طفل كيبيرا"، الذي حاز على عدد من الجوائز الدولية، ودشن بعدها الأكاديمية غير الربحية، ليستخدمها السكان المحليون لتصوير وقائع حياتهم، واكتساب مهارات تساعدهم في التطور مهنياً، وقال أوموندي، الذي تدرب بالمدرسة ويقوم بالتدريس فيها حالياً، إن "المدرسة بدلت نوعية سكان المناطق العشوائية، وعكست كيف يفكرون، والطريقة التي يريدون أن ينظر بها إلى أفكارهم بصرياً."

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 28/حزيران/2012 - 7/شعبان/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م