نحن نعتقد ما نعتقد، وقلّ ما نعتبر الآخرين أصحابَ أثر، ولأضيف
معتقدا آخرا وهو على ما اعتقد هذا هو الاختلاف بيننا وبين الأمم
المتطورة المعاصرة ولا أقل القديمة، لأنه من الثابت كانت شعوبنا
الناهضة لها نفس الميزة في الاعتراف بأثر الآخرين فكانت أمة عظيمة
وأفرادا منتجين أكثر من قوالين، وهي ميزة على ما أعتقد تمثل تعريف غير
مباشر مابين محفزات التطور ومثبطات التخلف أو ما بين العلم والجهل
وهلمّا جرى في المتضادات تصل الى العدل والظلم كما تذهب معتقدات البعض،
من حيث نعترف أن الآخرين لهم الأسبقية بأثر ما من عدمه..
ولنتصور كم مرّة تكررت عبارة المعتقد هنا بتصريفاتها في المقطع
السابق، حيث يسهل اعتقادنا بأن نعتقد من الممكن أن تردَ في كلِّ جملة،
لتسندَ ما نذهب له من تبنيات ومعتقدات..
لأتساءل لماذا نهمل السؤال قبل أن نعتقد؟..
ولماذا ننتقد قبل أن نتساءل؟
هل لأننا قد لقنا أنفسنا اننا نعرف كلّ شيء عن كلّ شيء؟
أم ماذا؟..
طالما كانت أفكارنا الخاصة عند تبنيها بتجريد كمعتقد تضلل عقيدتنا،
وطالما ضللت العقيدة الحقة..
.......................
.. يروى أنه خرج سليمان (ع)، ذات يوم مع جماعة من قومه، فسمع أربعة
من العصافير يتكلمون..
فقال لمن معه: أتعرفون ماذا تقول العصافير؟..
فقالوا: يا نبي الله انك انت سليمان وليس نحن..
فقال: العصفور الأول يقول: يا ليت الخلق لم يخلقوا.. والعصفور
الثاني يقول: ويا ليتهم لما خلقوا علموا لماذا خلقوا.. والعصفور الثالث
يقول: ويا ليتهم لما علموا لماذا خلقوا عملوا بما علموا.. والعصفور
الرابع يقول: ويا ليتهم لما عملوا بما علموا أخلصوا فيما عملوا.
.................................
.. أشعر علينا أن لا ننظر للعصافير من أنها فرصة للبيع والشراء
والغناء بين الجدران الأربعة للمنازل، فنحجزها في القفص لذلك، فيغيب
الاستمتاع عنا لترنيماتها العذبة المجهولة ولا نستمتع بها وهي في
حريتها بالطبيعة..
فالكلمات والأفكار مثل ذلك، معتقدين انها في القفص تطرب المكان كما
تطرب الطبيعة من على الأغصان، وبالتالي نحكم على أنفسنا بالجهل لأننا
لا نميز بين بكاء في قفص وما بين ضحكات بحرية بين أفق وطبيعة، وهذه
مثلما هي مبتلياتنا الشخصية فأنها مبتليات السياسة أيضا، لأن السياسة
كسلوك تنطلق من الفرد..
أن المتبنى الخاص دون حرية قيدٌ بحدّ ذاته ولا يمكن له أن يكون
نقدا، مثله مثل كلّ الافكار بالقيود، اِن كانت بقيدٍ ذاتيّ بأنواعه أو
قيد ظلم بأنواعه، فتفتقد جديتها مهما كانت تستحق حقا القدسية
والاحترام..
وان الكلمات دون صفة الأخلاق، ومن هذه الصفات احترام الأخر مهما كان
رأيه المضاد، ستخسر أهم ما في معناها وهي الدلالة، فينعدم المنطق فلا
تصوير ولا تصديق ويكون العبث والفوضى لنخسر جانبا مهما من انسانيتنا،
لأننا خسرنا قابلية تصحيح الأفكار التي يوجبها المنطق كما يوجب النحو
تصحيح اللسان وهكذا لكل علم تصحيح ما كي يرتقي الانسان ولو لدرجات في
الكمال..
وبالتالي ربما نعرف لماذا الكلمات الكثيرة لا تكشف شيئا سوى ثرثرة
وان الافكار المتضخمة تضعف القصد وتقربنا من اللا أمر، وان النقد دون
معلومة صحيحة ودون طرح البديل لا يكون له قيمة تذكر، ولماذا تكون
النتيجة من كلّ ذلك الهدم؟..
......................
.. فقد كان هناك رجلان يمران عبر بوابة الجمارك في أحد المطارات،
كان أحدهما من العالم الأول ويحمل حقيبتين والثاني من العالم الثاني،
وكان يساعد الأول على المرور بحقائبه عبر بوابة الجمارك..
عندها رنتْ ساعة الأول بنغمة غير معتادة، فضغط على زر صغير في
ساعته، وبدأ في التحدث عبر هاتف صغير للغاية موجود في الساعة…
أصيب الثاني بالدهشة من هذه التقنية المتطورة، وعرض على الأول مبلغا
من المال مقابل الساعة، ولكن الأول رفض البيع..
استمر الثاني في مساعدة الأول في المرور بحقائبه عبر الجمارك..
بعد عدة ثوان، بدأت ساعة الأول ترن مرة أخرى، ففتح غطاء الساعة
لتظهر شاشة ولوحة مفاتيح دقيقة، فاستقبل من خلالها بريده الالكتروني
وردّ عليه مباشرة ببريد مثله..
نظر الثاني للساعة في دهشة شديدة وعرض على الأول مبلغا أعلى لاقتناء
الساعة، ومرة أخرى قال الأول: إن الساعة ليست للبيع..
واستمر الثاني باعجاب في مساعدة الأول وحمل حقائبه الضخمة..
رنت الساعة مرة ثالثة، وفي هذه المرة استخدمها الأول بابتسامة وهو
يردد: انها صور أطفالي.. سأرسل لهم ما التقطت من صور سفري..
هذه المرة صمم الثاني وباصرار على شراء الساعة، وزاد بثمن مغري..
فأجابه الأول: اِني ساستعين بها للوصول الى عناوين لا أعرفها لأن
فيها دلالة مرتبطة بالأقمار الصناعية..
وعندما سمع الثاني هذه المعلومة زاد من اصراره على الشراء مع زيادة
المبلغ وبلهجة التوسل..
عندها سأله الأول: هل النقود بحوزتك؟..
فأخرج الثاني بعجالة دفتر الصكوك وحرّر له صكا بالمبلغ فورا، عندها
استخدم الثاني الساعة للمرة الأخيرة لنقل الصك إلى مصرفه، وقام بتحويل
المبلغ إلى حسابه، ثم خلع ساعته وأعطاها للثاني وسار مبتعدا..
فصاح عليه الثاني: انتظر.. لقد نسيت حقائبك..
ردّ الأول قائلا: إنها ليست حقائب.. وإنما فيها أعداد بطاريات اُخرى
وتعليمات اِضافية عن خدمات الساعة الأخرى هدية مني اليك.. ولكن ستحتاج
الى مثلها عند نفاذها وأتمنى أن تتمكن من شرائها مستقبلا.
..................................
.. عندما أقف للحظة على طرف من الطريق أدرك لا يمكن أن أحصي عدد
الخطوات التي مرت فكيف اِذا أحصي أعداد أصحاب تلك الخطوات أو أزمنتها
أو عصورها، هكذا هو اعجاز الفكرة عندما ندرك أن هناك أفكار لا تموت
ويمكننا أن نحترمها وأن افتقدنا المقدرة لاحصاء قائليها، لانّ الفكرة
ليست كالخطوة لا يمكن لها اِلا أن تكون، فكانت قبلها الكلمة..
bahaaldeen@hotmail.com |