ظاهرة زيارة الامام الكاظم(ع)

ظاهرة نفسية –اجتماعية، كسلوك جمعي

د. اسعد الامارة

عدت الظواهر النفسية –الاجتماعية في مختلف اصقاع العالم ظواهر أميل الى التفريغ الانفعالي واسقاط مشاعر وهموم جمعية لإفرازات الحضارة الحديثة في عالمنا المعاصر الذي خنقته التحولات التكنولوجية الضخمة وتطوراتها في القرن الماضي واستمرارها في الجديد فخلقت هذه المناسبات ارضية مقبولة اجتماعيا في العديد من المجتمعات التكنولوجية فظاهرة التجمعات الواسعة في مدن اوروبية محددة وفي اوقات محددة بزمن محدد تجذب لها الملايين من المهتمين بهذه الظاهرة مثل تجمعات ما يسمى بـ Festival.

او تجمع الملايين في احتفالات مطاردة الثيران ونحرها بسهام حادة ومدببة في المدن الاسبانية او مهرجان الترامي وقذف الطماطم بالاف الاطنان على المشاركين بهذا المهرجان السنوي فتجمع عشرات الالوف او الملايين في مثل هذه المناسبات يعد سلوكا جمعيا.

 اما في الهند فهناك التجمعات المليونية لتقديس الرب وصنع تمثال له من الطين وبالحجم الذي يرغبه الشخص المؤمن به ومن ثم يسير به (حامله) متوجها نحو شاطئ بحر العرب في ثاني اكبر مدينة في الهند عند غروب الشمس وهي مدينة "مومبي" وتعد هذه الظاهرة طقسا دينيا عند جماعة غير موحدة بالله.

اذن ما هو السلوك الجمعي؟

 يعرف السلوك الجمعي بأنه تعبير عن الصيغ الاجتماعية التي تطبع سلوك الافراد حين ينتمون الى جماعة واحدة حيث يتغير السلوك الفردي لكي يلائم سلوك الجماعة كضرورة لاستمرار تمتعه بالانتماء الاجتماعي.

 اما ظاهرة تجمع الملايين من المسلمين في مكان محدد متفق عليه مسبقا وهو مرقد الامام موسى الكاظم "ع" المدفون في العاصمة العراقية بغداد حيث يسير هؤلاء الناس من جميع محافظات العراق مشياً على الاقدام ومن القادمين من بعض البلدان العربية لا بل من مختلف اصقاع العالم بشعائر يدرك الناظر ان بها من القبول الذاتي والاحساس بالسعادة والرضا عن النفس مؤشرا ذو دلالة كبيرة ايمانا بالشعيرة او بصاحب المقام لدى هذه الطائفة وهنا يلج علينا ويذكرنا بأن ثمة فرقا بين مذهب الايمان المطلق "مذهب أهل البيت" وبرسالتهم الصادقة وبين مذاهب تدور حولها الشكوك وهذا ليس نفيا لتلك المذاهب وانما توكيدا لم يفطن له البعض من اولئك الذين اهتموا بهذه الظواهر بصحتها وقدسيتها.. انها جدلية وجود أزلية لأهل البيت في رسالتهم المحمدية الصادقة وليس نقيضها.. اذن يحق لنا ان نقول انه فعل تخطى المحدود في الممارسات الايمانية لدى محبي اهل البيت.

 رغم احوال المناخ سواءاً في الصيف اللاهب او الشتاء القارص لم تثني هؤلاء المشاة عن مسيرتهم الايمانية حتى وان وجهوا ضدهم العنف المنظم فعدوه فعل تخطى نفسه ولم ولن يؤثر في معنويات المشاركين بهذا السلوك الجمعي، فالمؤمن بخط أهل البيت اعتقد جازما وبرسوخ هذه الشعيرة النفسية –الايمانية – الاجتماعية في ذاته.

ويجدر بي استكمالا لما سبق ان اسوق ما اسفرت عنه بعض الممارسات السابقة في زيارة الاربعين للامام الحسين "ع" حيث تجمع الملايين من المسلمين في وقت محدد من السنة ومكان محدد من الكرة الارضية والتوجه اليه باعداد غفيرة تجمعهم شعائر اتفق الجميع على احترامها وتقديسها رغم كل المصاعب والتغيرات الجوية فإنهم يتوجهون الى ذلك المكان المقدس للمشاركة الوجدانية بقلوب خاشعة واعتراف ضمني معلن ومبطن لصاحب المناسبة وهو الامام الحسين"ع" لذا يعد سلوكا جمعيا لدى هذه الطائفة او ذلك المذهب من المسلمين ولا نغالي اذا قلنا ان العديد من ابناء المذاهب الاسلامية الاخرى شاركوهم في ممارستها ومدوا يد العون في اتمامها ولا نجانب الحقيقة اذا قلنا ان بعض من المؤمنين في الاديان السماوية الاخرى كان لهم حضور ملموس وفاعل ونشط في هذه المناسبات.

 ان الابعاد النفسية –الاجتماعية للسلوك الجمعي يبين ان الناس تتواجد في حضرة هذا الامام"الامام الكاظم-ع-" حضورا ماديا ومعنويا وليس مصلحيا فالرجل غادر الحياة بعد ان قضى معظم حياته حبيس سجون الانظمة المتسلطة فكان بحق يمتلك تأثيرا قويا حتى على سجانيه فهو في المنظور النفسي الحديث يستمتع بايمانه المطلق بالاسلام النقي –الصحيح وبالقدرة الفائقة على مقاومة الهم واستبدله بمفهوم قل نظيره لدى محبي أهل البيت وهو الحب المطلق لهم ولرسالتهم الاسلامية غير الملوثة بالسياسة السائدة آنذاك.

كان الامام الكاظم(ع) إماما فقهيا مستنيراً ولكن لم يكن متطرفا بل كان ناسكا وراهبا ومطيعا لمبادئ الاسلام الصحيح غير المحرف فضلا عن قوته وصلابته في ايمانه، أنه صحيح النسب والاصل ولا غبار على ماضيه في شدة الايمان او سلالته لعلي بن ابي طالب "ع" او رسول الله (ص).

تشترك ظاهرة السلوك الجمعي هذه في اسسها العامة والنوعية الخاصة في المشاركة العاطفية، فبها ايضا سلوك الحشد وسلوك الحشد هو التعبئة العامة للمشاركين بقناعاتهم بالمناسبة بدون اجبار او تغرير اما السلوك الجمعي فهو ايضا سلوك الجماعات الذي يظهر اذا ما توفرت شروط عدة في المواقف المحيطة بهذه الجماعات.

 يطرح "لوبون" في نظريته لتفسير سلوك الحشد بانه ليس مجرد جمع من الناس وانما يفترض فيه حالة عقلية خاصة اسماها بالروح الجمعية، وتتألف الروح الجمعية من الرغبات اللاشعورية المشتركة بين جميع الافراد وهذا ما تحقق في زيارة الاربعينية للامام الحسين(ع) وزيارة الامام الكاظم (ع) ويرى( لوبون ) ايضا: ان الافكار والعواطف والاهداف تتوحد كلها في الحشد استنادا لقانون الوحدة العقلية وهذا ما يؤدي الى ظهور العقائد وترسيخها وهو ما تحقق في هذه المناسبات.

* استاذ جامعي وباحث نفسي

elemara_32@hotmail.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 17/حزيران/2012 - 26/رجب/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م