لا يخفى أن الإنسانية ما كانت لتتقدم وتتطور وتنمو وتتحضر لولا
اهتمامها بالطفل كنواة حقيقية للمجتمع الآدمي المنشود، ونجد في التاريخ
شواهد على أن الأمم التي نجحت في بناء حضارات إنسانية متميزة إنما هي
الأمم التي اهتمت أكثر من غيرها بالطفل كأمل للمستقبل الموعود، وقد
تكون الحضارات العراقية القديمة الأنموذج الأكثر روعة لهذه التجربة
الإنسانية الفريدة.
فبالرغم من كون التربية والتنشئة التي كانت متبعة آنذاك في العراق
القديم كانت تتم وفق آليات فطرية موروثة وغير مقصودة المنهج لعدم وجود
مناهج تربوية أو كيانات مؤسساتية تأخذ على عاتقها مهمة التربية
والتعليم، لأن التربية كانت قائمة على النظر والتجريب والتقليد
والمحاكاة لما يقوم به الكبار في حياتهم اليومية من نشاطات، كل ذلك
بهدف تهيئة الطفل ليتحمل ضغوط الحياة الصعبة التي كانت تمر بها الأمم
فضلا عن تعلم المهارات الدفاعية والقتالية والبنائية التي تفيده في
حياته ومعيشته، إلا أنها مع وجود كل تلك العوائق الصعبة نجحت فعلا بخلق
نماذج من البشر تمكنوا من خدمة مجتمعاتهم والارتقاء بها لتتحول بجهودهم
وتضحياتهم إلى مجتمعات متحضرة بنت حضارات شامخة لا زالت آثارها قائمة
إلى يومنا هذا.
ففي حضارات وادي الرافدين المتعاقبة: السومرية والآشورية والبابلية
والأكدية كان للتربية والتعليم حصة لا يستهان بها من مجمل الثقافة
القائمة، وقد كتب المشرع العراقي القديم مضامينه التربوية التي تشرح
وتبين وتضمن حقوق الطفل حتى قبل 2000 عام قبل الميلاد، ونجد في مسلة
القائد العراقي الكبير "حمورابي" حديثا عن حقوق الطفل الطبيعية بدأ من
الحمل والوضع والرضاعة مرورا بالتربية لتعليمه أصول السير والأكل
والجلوس واحترام الكبار، ومن ثم تعليمه أبجديات التدين ومعرفة الآلهة
وأساليب القتال والدفاع، وصولا إلى الجانب المالي والاهتمام بموضوع
الإرث الذي يضمن حقوق الطفل المالية عند موت أحد والديه أو كلاهما، بل
إن المشرع العراقي القديم لم ينسى الأم حاضنة الطفل فشرع قوانين لا
تجيز الاعتداء عليها أو إرهاقها بالأعمال الصعبة حرصا على سلامة الجنين
في بطنها.
وقد أخذت الحضارات العراقية المتعاقبة بعضها عن البعض الآخر تلك
الأعراف والقوانين من خلال التناقل الثقافي ونمتها وطورتها وهذبتها
وأضافت إليها مستجدات من إبداعاتها، لأن التربية في العموم عملية
تثقيفية تحتاج إلى المواصلة المستمرة، ولم تكن في يوم ما مسألة ترفية
أو ظرفية تتعلق بمرحلة تاريخية وأمة بشرية، وإنما هي حركية ديناميكية
تتطور من خلال حركة التاريخ وتزدهر بتطور المجتمع وتطور الفرد نفسه.
ولذا نجد حضارات التاريخ العراقي القديم ما إن تسقط إحداها ولأي
سبب كان حتى تنهض الأخرى بسرعة لتسد الفراغ وتسهم في تنمية قدرات
الإنسان وتطويره وكأنها قد استعدت للأمر واعدت الاحتياطي المطلوب
وجعلته في أهبة الاستعداد.
وقد تكون الحضارة العراقية القديمة هي من أرسى قواعد حقوق الطفل
لأنها لم تكتفي بوضع أسس هذا المبدأ الإنساني الرائع فقط بل وعملت بجد
وجهد لتطبيق تلك المباديء التي سنتها على أرض الواقع في الحياة العامة
والممارسة الروتينية اليومية، ولذ استمر هذا الاهتمام حتى بعد سقوط
الحضارات وانهيارها لأن الناس تطبعوا عليه وصار الاهتمام بالطفل
وتربيته وتأشير حقوقه أحد أشهر الاهتمامات المشتركة للعراقيين. وفي هذه
الحقب لم تكن هناك من تحديات تواجه الطفولة أكثر مما كان الراشدون
يواجهونه.
|