لم تفاجئ التحركات الشعبية الواسعة في الدول العربية أنظمة الحكم
فقط بل فاجأت الأحزاب السياسية بكل مشاربها السياسية حيث كان اهتمام
هذه الأحزاب قبل الثورات منصبا على كيفية تعظيم مكاسبها السياسية من
خلال المشاركة في النظام السياسي القائم، فلم تكن فكرة (الثورة الشعبية
الشاملة) لإسقاط بعض الأنظمة مطروحة إلا كمخطط عند بعض الجهات الخارجية
لخدمة سياساتها ومصالحها الخاصة وذلك في إطار ما أُطلق عليه (الفوضى
الخلاقة).
ولكن الأهم من ذلك أن هذه الثورات فاجأت أيضا علماء وأساتذة
الاجتماع والسياسة، حيث جرى مع هؤلاء مع ما جرى مع علم وعلماء السياسة
الفرنسيين عندما اندلعت الثورة الطلابية عام 1968 من حيث لا يحتسبون،
مما أدى لثورة في علم السياسة وانحياز كثير من علماء السياسة لعلم
الاجتماع السياسي على حساب علم السياسة الكلاسيكي، باعتبار أن الاول
يولي اهمية للقوى والفئات الاجتماعية ومجمل التفاعلات الاجتماعية خارج
إطار الدولة ومؤسساتها.
ما قبل يناير 2011 لم يكن مصطلح وفكر الثورة من المواضيع المطروحة
كمواد تدريس في الجامعات ولدى الباحثين الاجتماعيين والسياسيين، وإن
كان يُشار إليها ففي إطار الدراسات التاريخية فقط، كما أن الشباب كفئة
اجتماعية قادرة على تحريك الشارع وتفجير ثورة لم يكونوا من ضمن
اهتمامات علماء وأساتذة السياسة إلا عند الحديث عن الهرم السكاني
والبطالة والمشاركة السياسية.كان الأهتمام منصبا على قضايا الإصلاح
السياسي والمشاركة السياسية والعنف السياسي في إطار بنية وثوابت
ومرجعيات النظام القائم.
لأن التحركات الشعبية الواسعة شكلت تحديا كبيرا أمام علم وعلماء
السياسة العرب، فكان الأمر بحاجة لمقاربة علمية ابستمولوجية لتخلف علم
وعلماء السياسة العرب عن التنبؤ بهذا الحدث وارتباكهم أمام تداعياته
المتلاحقة.
وكانت مشاركتي في الملتقى الدولي لعلم السياسة الذي نظمته المدرسة
الوطنية العليا للعلوم السياسية في الجزائر منتصف ابريل الماضي فرصة
للالتقاء بعدد من علماء السياسة من عدة دول عربية وإسلامية وأوروبية
وأمريكية لمناقشة واقع وآفاق علم السياسة اليوم.
بالرغم من ان المؤتمر ركز على المعالجات الابستمولوجية للسياسة كعلم
وليس كأحداث وقضايا، إلا موضوع التحركات الشعبية الواسعة وتداعياتها
كان حاضرا في كثير من الأوراق التي قدمها الباحثون.
أيضا تم تخصيص جلسة لأثر السياق الوطني في تدريس علم السياسة، وفي
هذه الجلسة كانت مداخلتنا التي حملت عنوان (نحو علم اجتماع سياسي
فلسطيني).
تكمن أهمية هكذا لقاءات علمية ابستمولوجية في الاجتماع والسياسة
وخصوصا في العالم العربي في أنها تُخرج الباحثين من وطأة وأسر المشاكل
الاجتماعية والسياسية الحياتية اليومية والسطحية والتي لا يتميز فيها
الباحثون والعلماء في التحليل والتشخيص كثيرا عن المواطن العادي، خصوصا
في ظل الفضائيات وغيرها من وسائل الاتصال والتواصل الجماهيري، حيث الكل
في عالمنا العربي أصبح محللا سياسيا واجتماعيا والكل يتنطع مدعيا انه
الأقدر على فهم وتحليل الواقع السياسي والاجتماعي.
المفارقة انه مع هذا التسييس المشوه للمجتمع فإن الواقع الاجتماعي
والسياسي العربي يسير من سيئ إلى أسوء ويحدث ذاك الانفصال الواضح بين
السياسة كعلم والسياسة كتنظير وحديث شارع بل وممارسة سياسية.
كانت التحركات الشعبية الواسعة في أكثر من بلد عربي والتي أدت إلى
إسقاط حكام في بعض الدول وحالة من الحرب الأهلية في أخرى وتسريع عملية
الإصلاح السياسي في بعضها الآخر، بمثابة كشف المستور عن أزمة علم
وعلماء السياسة في العالم العربي من حيث عدم قدرة أساتذة وعلماء
السياسة على فهم سيرورة الأحداث واستشراف صيرورتها وتلمس التحولات
العميقة التي تحدث في المجتمعات العربية بعيدا عن التنظيرات
الأيديولوجية والقانونية والمؤسساتية التي هيمنت عليهم وعلى تدريس علم
السياسة.
وعندما نقول أزمة علم السياسة لا نقصد أزمة علم السياسة كمناهج
وأدوات بحث بل أزمة النظريات والمقاربات التي كان يعتمدها أساتذة
وعلماء السياسة في العالم العربي حول الانتقال نحو الديمقراطية
والتداول على السلطة والمشاركة السياسية والنخبة السياسية والأحزاب
والدستور الخ.
الأحداث المتسارعة في العالم العربي تتطلب علماء سياسة ينكبوا على
استقراء الواقع الاجتماعي والسياسي العربي من خلال دراسات وأبحاث
ميدانية متحررة من النظريات والتنظيرات المسبقة. فداخل الحالة المسماة
(الثورات العربية) يحتاج الأمر لمقاربات علمية خاصة بكل حالة عربية،
فَلِمَ يأخذ الحراك الشعبي نمطا واحدا في كل الدول التي شهدت (ثورات)،
فلتونس تجربتها ولمصر تجربتها ولليبيا تجربتها الخ.
كما أن دولا عربية الأخرى عرفت إصلاحات سياسية واجتماعية في ظل
مرتكزات وثوابت النظام السياسي والمجتمع كالمغرب والجزائر، وحتى على
هذا المستوى توجد اختلافات فالمغرب نظام ملكي والجزائر نظام جمهوري،
كما أن حصد الإسلامي السياسي في المغرب أغلبية في الانتخابات التشريعية
اهلته لتشكيل حكومة بينما كانت نتيجة الانتخابات هزيمة مدوية لنفس
التيار في الجزائر، يحتاج لبحث معمق.أيضا لا يمكن عزل هذه التحركات
الشعبية المتواكبة زمنيا عن المؤثرات الدولية والتدخل الأجنبي.
لا غرو أن هذه الأحداث كشفت التباعد الحاصل بين واقع علم السياسة
الذي يتم تدريسه في الجامعات من جانب والواقع السياسي كمؤسسات ونظريات
وخطاب وأيديولوجية من جانب آخر، أيضا كشفت التناقض بين تزايد عدد
أساتذة ومدرسي الاجتماع والسياسة الذين تعج بهم الجامعات من جانب
وتضاءل عدد علماء الاجتماع والسياسة من جانب آخر.
وهناك فرق كبير بين من يُدرسون الاجتماع والسياسة وبين علماء
الاجتماع والسياسة، فالأولون يُدرسون ويُعلمون نظريات وعلوم اجتماعية
وسياسية ليست نتاجهم، بل يدرسون نظريات ومعارف هي نتيجة دراسة مجتمعات
مغايرة، إما مستلهمة من الماضي وتجارب واجتهادات (السلف الصالح) أو
مستنسخة من تجارب الشرق أو الغرب، أما الآخرون- علماء السياسة- فإنهم
وإن كانوا مطلعين على النظريات الاجتماعية والسياسية عبر العالم وعلى
تجارب الآخرين إلا أنهم ينكبون على دراسة الظواهر الاجتماعية والسياسية
في مجتمعاتهم ثم يضعوا نظريات ومقاربات علمية تعبر عن خصوصية هذه
المجتمعات.
للأسف فإن انفتاح الجامعات العربية في العقود الأخيرة على جامعات
ومراكز بحوث الغرب وتَخَرُج كثير من أساتذة العلوم الاجتماعية
والسياسية من أرقى جامعات الغرب والشرق لم يؤد إلى تغيير كبير في تزايد
عدد علماء السياسة كباحثين متسلحين بمناهج وأدوات تحليل حديثة لاستقراء
واقع مجتمعاتهم، بل إن كثيرا من خريجي الجامعات الأجنبية بعد أن يعودوا
لبلدانهم – إن عادوا- إما أن يغتربوا عن المجتمع ويتعالوا عليه من خلال
سلوكياتهم وتمسكهم وترديدهم للنظريات الغربية ومحاولة فرضها قسرا على
طلبتهم وعلى تفسير قضايا مجتمعاتهم، أو ينسون كل ما تعلموه في الغرب من
علم ومناهج تحليل وثقافة، فيعودوا أكثر انغلاقا وجهلا وتماهيا مع
الأنماط الثقافية والسلوكية السائدة في مجتمعهم دون أية محاولة
لتغييرها.
هذا لا يعني تجاهل علماء وباحثين عرب تغلبوا على قلة الإمكانيات
المتاحة لهم وعلى تجاهل جامعاتهم وأصحاب القرار لهم، وفرضوا حضورهم
العلمي في مجتمعاتهم وفي العالم من خلال إنتاجهم دراسات ومقاربات
اجتماعية وسياسية عبرت عن واقع مجتمعاتهم.
Ibrahemibrach1@gmail.com |