منذ أن تكونت الدولة بشكلها الحالي فانها واجهت تحديات كبيرة منها
الصراع الداخل كونها آلة حاكمة وبين مواطنيها باعتبارهم أفراد يخضعون
لسلطاتها، واصل الصراع في رغبة الشعب للحد من استبداد الحاكم ورغبة
الحاكم في الهيمنة على الاشياء.
واشتد نضال الشعوب حتى ان وصل الى وضع قواعد تنظم العلاقة بين
الحاكم والمحكوم وقُيِدً سلطان الحاكم على رغم انفه، ومن بواكير ثمار
النضال الإنساني الثورة الفرنسية التي وضعت حدا لسلطان الملك عندما عطل
العهد الذي اقره للشعب عبر البرلمان، وتوالى أفق الانفتاح نحو تقييد
سلطان الحكم لمصلحة الشعب، إلا إن الحاكم واعني به كل أشكال أنظمة
الحكم، قد تنوعت أساليبه في سلب الحقوق من الشعب والتغول حينما وجد له
مسرباً.
ويذكر الفيلسوف مونتسكيو في كتابه (روح الشرائع) ((ان كل شخص يحوز
السلطة يكون محمولا على تجاوزها)) وكذلك ما ذكره المؤرخ البريطاني
اللورد اكتوت (Acton) ((القوة تفسد والقوة المطلقة تفسد بصورة مطلقة))
وهذه الأفكار كانت النواة الأولى لتقسيم وتوزيع السلطات بشكل متوازن
ويعتبر ذلك من حق الشعب.
ويقول الفيلسوف الانكليزي جون لوك (إن حق الشعوب في مقاومة الطغيان
والاستبداد والانحراف بالسلطة مسلم بها) لذلك فان كتابة الدساتير
وإصدارها لم تكن كافية للحد من تغول السلطة الحاكمة تجاه حق الشعب،
والمتتبع لتاريخ ظهور الدساتير يجد إنها ظهرت منذ أكثر من ثلاثة قرون
ومنها الميثاق الدستوري الذي أعده الملك لويس الثامن عشر في القرن
السادس عشر، إلا ان طغيان الحاكم لم ينتهي والتجاوز على الدستور لم
يتوقف على الرغم من اعتباره الوثيقة الاسمى التي تحدد شكل الدولة وحقوق
المواطن، فكان الحاكم يصدر القوانين التي تخالف روح الدستور والمبادئ
التي وردت فيه، فكان لابد من وجود اسلوب للرقابة على دستورية هذه
القوانين لحماية الدستور من تعسف المشرع وجور المنفذ والحيلولة دون
التقاطع والتنازع بينهما وإيجاد التوازن وتأمينه بينهم.
وعلى اثر ذلك تعددت وسائل الرقابة الدستورية منها سابقة لإصدار
التشريع وأخرى لاحقة مثلما اختلفت أشكال جهات الرقابة بين هيئة سياسية
إلى هيئة قضائية وأخرى مختلطة من السياسيين والقضاة، وتضمنت معظم
دساتير العالم مواد تحدد جهات الرقابة الدستورية وفصلت اختصاصها وطريقة
تشكيلها، ولم تترك الأمر للمشرع العادي حفاظا على صلابتها وحياديتها
واستقلالها تجاه السلطتين التشريعية والتنفيذية وتسمى بأسمائها، في
العراق ومنذ تأسيس الدولة العراقية صدرت عدة دساتير من القانون الأساسي
لعام 1925 وما تلاها ولحين صدور قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية
ذكر في بعضها أسلوب الرقابة الدستورية، إلا أنها لم تظهر على الواقع
ولم تشكل أي محكمة دستورية ولم يصدر حكما واحدا في دستورية القوانين
حتى تم تشكيل المحكمة الاتحادية العليا الحالية، بعد أن ورد ذكر
تشكيلها في قانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية الصادر عام 2004 في
المادة (44) وحدد اختصاصها وتسميتها وطريقة تشكيلها ثم توج الجهد
القضائي الذي سعى لتشكيلها بصدور الأمر 30 لسنة 2005 في 34/2/2005 من
رئيس الوزراء الذي كان يملك سلطة إصدار التشريعات في حينه يسمى (قانون
المحكمة الاتحادية العليا) وقد نصت المادة (1) منه على (تنشأ محكمة
تسمى المحكمة الاتحادية العليا،ويكون مقرها في بغداد تمارس مهامها بشكل
مستقل لا سلطان عليها لغير القانون)، وفي هذا الأمر فصل طريقة تشكيل
المحكمة والاختصاص الذي ينعقد لها على وفق حكم المادة (4) من خلال
ترشيح مجلس القضاء ثلاثة أضعاف عدد أعضاء المحكمة الذي حددتهم المادة
(3) بالرئيس وثمانية أعضاء وتعرض هذه الأسماء على رئاسة الجمهورية في
حينه عندما كانت الرئاسة تدار من مجلس رئاسة ويتم اختيار تسعة أعضاء
بما قيهم الرئيس من بين المرشحين وكان عددهم في حينه سبعة وعشرون قاضياً
من أهل الخبرة والدراية القضائية والكفاية العلمية والسمعة الحسنة في
مسيرة القضاء وكان اقلهم عمرا في القضاء له خدمة لا تقل عن خمس وعشرين
سنة وبترشيح من مجلس القضاء الأعلى على مدى جلستين كان التصويت فيهما
سري، ثم اختار مجلس الرئاسة في حينه العدد المطلوب (رئيس وأعضاء
المحكمة) بموجب المرسوم الجمهوري المرقم 67 في 30/3/2005 والمذيل
بتوقيع مجلس الرئاسة وهم رئيس الجمهورية الشيخ غازي عجيل الياور
ونائبيه الدكتور روز نوري شاويس والدكتور إبراهيم الجعفري ومن ثم صدق
على الأسماء بموجب القرار الجمهوري المرقم (2) في 1/5/2005 المذيل
بتوقيع رئيس الجمهورية جلال الطالباني ونائبيه الدكتور عادل عبدالمهدي
والشيخ غازي عجيل الياور وباشرت المحكمة عملها حتى أن كتب دستور عام
2005 وحدد في المواد (92 ـ 94) مهام وتشكيل المحكمة الاتحادية العليا
وحدد طبيعتها واختصاصها الدستوري في القضاء والتفسير ومنها المصادقة
على الانتخابات البرلمانية.
وبعد أن صدر الدستور وجرت في ظله أولى الانتخابات فمارست المحكمة
الاتحادية اختصاصها في المصادقة على الانتخابات التي أفرزت أول رئاسة
منتخبة بموجب الدستور وتستمد شرعيتها من الشعب، مثلما مارست هذه
المحكمة دورها في القضاء الدستوري والتفسير وكان لها دور في حفظ
التوازن بين السلطات وحماية الحقوق وفي قرارات عديدة منها في طعن قضائي
ومنها في تفسير نص دستوري استشرفت روح الدستور وغاية كاتبه واستجلت
الغموض الذي اكتنف بعض فقراته مزودة باليات التفسير المتطور للنصوص في
ظل خبرة عقول حكيمة زادت نضارتها جسوم أفنت شبابها في ميدان التأدب
القانوني والدربة القضائية وكان لها الأثر الواضح في حفظ الاستقرار
السياسي والاجتماعي.
وبهذا المثل الحي نجد أن القضاء الدستوري كان حاميا للدستور من
الاعتداء على ما ورد فيه من مبادئ تضمن للمواطن حقه، حتى وان كان البعض
لا يرى في ذلك الحٌسنَ والجَمال، لان هذا البعض يقول فيه الفيلسوف
مونتسكيو ((بان كل مَن ملك السلطة يكون محمولا على تجاوزها)) فضلا عن
صفات بعض السياسيين في العراق وغيره من البلدان في التشكيك بثوابت
المجتمع التي تحفظ كيانه، لأنه يعتقد بان سلطانه هو الذي لابد وان يسود
وانه الأعلم وسواه أهلُ جَهلٍ، وهذه ليست وليدة اليوم بل يقول الفيلسوف
والمعلم الثاني أبو نصر الفارابي في كتابه تحصيل السعادة ((ان الملك هو
مؤدب الأمم ومعلمها)) وهذه ثقافة تجذرت فينا وبعضنا من لم يتخلى عن
بداوته يرى بأنه أن اعتلى عرش السلطان سواء كان مُشرِعا أو مُنفِذاً
فانه لا يرى في غيره الكفاءة ولا يقبل من غيره حتى المودة أن بادله
إياها لأنه سلطان زمانه.
ومثلهم من ذكره الشاعر أبو العلاء المعري في رسالة الهناء التي
وجهها إلى احد كبار معاصريه يهنئه فيها بقدوم وزير السلطان فيقول ((ان
من الممنوع والمحظور إن تجيء التهنئة من غير الكفء والنظير)). |