طريقة صناعة الخبز كما يعرفنها نساء كردستان مختلفة بعض الشيء عن
التي تعرفها نساء بقية المدن والأقاليم العراقية.. وتعرفت على رقائق
الخبز التي كان صديقي شوان يأتي بها الى العاصمة بغداد ويحتفظ بها في
غرفته في الفندق الذي يسكنه بشارع الرشيد.
ولمرة أو مرتين فقط ذهبنا أنا وشوان وصديقنا الثالث حليم القادم من
مدينة الكوت الى غرفته، وكان يطعمنا ذلك الخبز الكردي، وطعام آخر لا
أتذكر منه شيئا الآن، وبعد كل هذه السنين، ومنذ العام 1998 أي قبل أربع
عشرة سنة لم أسمع بأخبار شوان، بينما ذهب حليم الى كوت وحين قرر ترك
الجامعة، وكنت بعده لوحدي أتأمل صورة صديق مضى دون نجاح، منزوياً في
المدينة البعيدة، منعزلاً عن الناس والحياة، وكانت المرة الأولى
والأخيرة التي أتمكن فيها من الحصول على رقم الهاتف الذي يمكن أن يتيح
لي فرصة الحديث إلى حليم، حين قال لي: أنت كنت معي في الكلية، قلت له،
لا حليم أنا هادي صديقك، قال لا أنت الآن استاذ هادي ونراك في
التلفزيون، وفي السابق كنت زميلي.!
لقد تغير حليم وأنا أعرف ما أصابه. تخلصت من رقم الهاتف بعد تلك
الصدمة، لكني لم أتخلص من ذكرياتي الجميلة مع حليم، عندما كان يرغمني
على ترك قاعة المحاضرات في كلية المأمون الجامعة بجانب الكرخ من بغداد
لنذهب في جولة تسكع في الشوارع المحاصرة بالدكتاتورية وحصار الامريكان،
ثم ندلف الى شارع الرشيد حيث مقهى حسن عجمي الذي تعرفت فيه على الصديق
الروائي عبد الأمير المجر، والشاعر كريم الشامي، والأديب المغترب زعيم
الطائي، وكان حليم يتلو لي فيه (تاريخ الأسى) لطالب عبد العزيز. وينثر
علي من قصائده، وما كان ينظمه، وكنا نفاجأ بين حين وآخر برجال الأمن
يطلبون هوياتنا، بينما نحن نتلهى بالشاي الذي يحضره المرحوم (أبو داود)
أشهر عامل شاي في مقاهي الأدب بشارع الرشيد. وكان أحد الشعراء مفتخراً
أنه حصل على ما يعادل في حينه أقل من 40 دولاراً أمريكياً لأنه نشر
قصيدة يمتدح فيها دكتاتور بغداد نشرتها جريدة القادسية، بينما كان يحمل
خشبة تتقدمه، وقد وضع حزاماً يتصل على جانبي جسده يبيع فيها السجائر
ليعيش وكان ذلك منتصف تسعينيات القرن الماضي.
كان كاكا شوان الجميل والمهذب والطيب حد السخرية والأنيق عصامياً
الى درجة مزعجة فلم يكن يسمح للنساء أن يقتربن منه بينما كنا نلتصق
بطالبة من كل قسم في الكلية. وكان يتعرض لآلام مبرحة في الكلى، وكنت
أعرف ذلك في اليوم التالي فقد كنت أسكن كما أنا الآن في قرية على تخوم
العاصمة بغداد وكنت أحزن كثيراً لحاله، حتى إني كنت أظن أنه لن يطول
بقاؤه في الحياة.
بعد أربع عشرة سنة، يرن الموبايل، شلونك كاكا هادي، أهلا وسهلاً،
عرفتني أم لا ؟ ومن جملتين وكلمات وضحكة خفيفة عدت بالزمن دون عوائق
إلى تسعينيات القرن الماضي، وتجاوزت العذابات، وصور الأحبة وأيام
الكلية وأنفاس الحبيبة وحليم، وأشياء لا تحصى لأصل إلى حيث مكان شوان
في الذاكرة الحية، ومعه عدت إلى هذه الأسماء الغالية والوجوه المفعمة
بالحزن وصرخت، شوان، شوان، يا صديقي. حصل شوان على رقم هاتفي من الصديق
الرائع سه زر الذي إستطاع الوصول إلي عن طريق الفيس بوك، وظل لمدة عام
يبحث عن شوان. وبطريق الصدفة كان شوان يمر بأحد شوارع كركوك حين رأى سه
زر الذي أخبره بأنه اتصل بي وأنا ابحث عنه، وكانت العودة إلى حضن
الصداقة الدافئ.سأجيئك إلى كردستان يا شوان.سأجيئك الى بغداد يا هاد.
كان كل منا يقول للآخر هذه الكلمات. |