(انطيني عطوة)... عن عشائر السياسة العراقية

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: اعتبرت السياسة فنا في وقت من الاوقات، وهو وقت طويل قطعه هذا الفن منذ نشوء التجمعات البشرية، قبل ان يتحول الفن الى علم له مدارسه ومنظريه ونظرياته.

فن السياسة سبقه الرسم البدائي والخربشات على جدرانها الممتدة بين كبير القوم واتباعه، ثم بين الكبير وكبار اقوام اخرى، تلك الخربشات والرسوم البدائية كانت حاجة بشرية ملحة لحل النزاعات التي تقوم بين تجمعات وغيرها نتيجة حراكهم اليومي، اعمالا وتجارة وانتقال من مكان الى اخر.

تطورت تلك الخربشات، واصبحت رسوما فنية بالوان متعددة تراوحت بين جميع الدرجات من تلك الالوان، هنا الاحمر الصارخ، وهناك الاسود القاتم، يقابله الابيض، ثم على يمينه الاخضر، وعلى اليسار منه الاصفر، والسياسة في كل هذا كانت تخادع الجميع، وتشتت الالوان.

الفن تحول الى علم، عبر رحلة قرون طويلة، واستفاد هذا العلم مما تراكم من فنون الاداء والايقاع على الجدران السياسية. قد تكون لوحة هنا، واخرى هناك، الا ان جميع اللوحات في السياسة فن غير مكتمل، يخضع لريشة الرسامين (الفاعلين السياسيين)، وتلك حيرة تصيب المتابع للفعل السياسي، فلا شيء مكتمل، الجميع يرسم ويترك اثرا. تلك الاثار التي تركها السابقون هي العلم الذي يدرس في الوقت الحاضر، ويخضع لخطوط بيانية صعودا او هبوطا والى معادلات رياضية، تؤشر لما يكون في اللحظة الراهنة، وما سوف وسيكون في لحظة قادمة، مع هامش للصدفة او المناورة، وهي صدفة لا تخلو منها مفترقات الماضي والحاضر او المستقبل، وهي مناورة محسوبة، بدقة، تحاول ان تسابق مناورة الطرف المقابل وتستفيد منها.

حسب توني بينيت ومجموعة من الباحثين في كتاب (مفاتيح اصطلاحية جديدة) والصادر عن المنظمة العربية للترجمة تظهر السياسة مصطلحا مقبولا بمعنيين حاليين ومتميزين، في الاول منها، تشكل بوليصة التامين (policy) وثيقة تنص على الشروط التي تدفع عند العودة كتعويض مالي عند حصول خسارة ملك او مصدر رزق او حتى حياة.

ويدل الاخر على الخطط والبرامج والمبادئ، او بعبارة اعم مساق فعل يؤديه فاعل من نوع ما غالبا ما يكون فاعلا سياسيا مثل حكومة او حزب او رجل سياسة، هكذا تستطيع الاطراف السياسية و السياسيون ان يقدموا ويمارسوا انماطا مختلفة من السياسة، وقد تنطوي السياسة على درجة من انقطاع متعمد للفعل كما تنطوي على الفعل كما في سياسات عدم التدخل الاقتصادية التي تدعو الى دور فاعل محدود للحكومة في السيطرة على القضايا الاقتصادية.

يبدو المعنى الرئيس لكلمة سياسة المعاصرة معنى مسرفا في التقنية، يمكن للمرء ان يتابع بعض السياسات او المبادئ التي تكمن وراءها او يعارضها لكن المرء لا يستطيع ان يتخيل حكومة من دون سياسة. وتؤكد تاليفات من طراز: صنع السياسة، واطار عمل السياسة، ووثيقة السياسة، وبيانات السياسة، وعملية السياسة، بل حتى علم السياسة هذا المعنى التقني للمصطلح.

في العربية يختلف المصدر الاشتقاقي للكلمة، فالسياسة مشتقة من كلمة (سيسو) البابلية بمعنى (حصان) ثم اطلقت على ما يبدو على ترويض الخيول، فجاءت منها سائس.

والظاهر ان ترويض الحصان على نطاق واسع في الصحراء العربية لم يحصل الا في حقبة الحيرة، منذ القرن الثالث الميلادي وحينئذ تمت العودة الى المصطلح البابلي، وفي اواخر عهد الجاهلية القريبة من الاسلام، بدأت السياسة تستخدم بمعنى فن الحكم.

لكن ظهور الادب السياسي تأخر حتى القرن الثالث الهجري وما بعده، حين كتب الفارابي رسالته السياسة المدنية. ويبدو ان مصطلح السياسة ظل يحتفظ بأصله في الجمع بين ترويض الخيول وترويض المجتمعات. ولهذا نجد المعري يجمع بين المعنيين فيقوله:

يسوسون الامور بغير علم فينفذ امرهم فيقال ساسة.

في السياسة العراقية ورغم ان العالم في القرن الواحد والعشرين، لازال ساسة العراق، هم برتبة سائسي خيول في صحراء واسعة، ولازالت خربشاتهم البدائية تشوه معالم اللوحة الكبيرة للسياسة كفن قبل كونها علم.

شهد المجتمع العراقي بعد عام 2003 وبعد الانفلات الأمني الذي ضرب البلاد وعدم انصياع بعض العشائر العراقية أو الأفراد المعينين إلى القانون، بعض التغييرات التي طرأت على الفصل العشائري وتحوّل من صورته في الدفاع عن المظلوم وأخذ الحق من الظالم إلى عملية تجارية مثيرة للاهتمام، حيث أصبح الفصل العشائري (السانية) في الوقت الحاضر (أتاوة) تؤخذ من الآخرين بإسناد من العشيرة وأبنائها.

ويمثّل الفصل العشائري أو ما يسمى بـ (السانية) والذي تفرضه العشيرة على الشخص الذي يخل بكرامة وحرمة أحد أبنائها، أحد التقاليد والقوانين العشائرية في المجتمع العراقي والتي تسمى بالمنظور الإسلامي (الجزية).

والفصل هو تقليد متعارف عليه ولحقب طويلة من الزمن والغاية الرئيسية منه هو حقن الدماء بين المتخاصمين وانهاء ظاهرة الثار التي كانت متوارثة سابقا والدفع باتجاه الصلح بين المتخاصمين.

عند مطالبة احد المتخاصمين للفصل العشائري ستعم لكلمة (اكاومك) وتعني احضار اعمامه الى دار الخصم، بالمقابل يطلب هذا الخصم من الطرف (المكاوم) ماعرف ب (العطوة) وهي المهلة لغرض احضار اعمامه وتهيئة الاجواء للفصل العشائري.

والعطوة هي الهدنة الأمنية التي يعطيها المعتدى عليه أو ذويه إلى المعتدي أو ذويه وتكون عبارة عن مهلة زمنية ليتسنى لهم ترتيب أوضاعهم والإبتعاد عن منطقة إرتكاب الجريمة، وتعتبر العطوة من العادات والأعراف المجتمعية المستحدثة فقد كانت (الدخالة) تقوم مقامها عند حدوث جرائم ضرب أو إعتداء أو قتل أو مساس بالعرض، ويتوسط بين الطرفين للحصول على العطوة مجموعة من اهل الخير من الوجهاء المعروفين في المجتمع وخصوصا ابناء العشائر وشيوخها ويتم التوصل إليها من خلال ذهاب مجموعة منهم لأهل المعتدى عليه وتسمى (الجاهه) ويتم التفاوض معهم للحصول على هذه الهدنة من خلال جهود أشخاص آخرون غير طرفي النزاع، وتطييب الخواطر من خلال المعرفه,، وكف أيدي أهل المجني عليه عن الإعتداء على الجاني أو ذويه.

هذه العطوة اخذت تمتد الى الفعل السياسي العراقي اليومي (عطوة) المائة يوم، وكانت هناك ايضا عطوة انسحاب نواب ووزراء العراقية، وعطوة اربيل1واربيل 2 وعطوة النجف، وعطوات اخرى كثيرا ما سمعناها من الساسة العراقيين من على منابر التهديد والوعيد.

العشائر السياسية العراقية، وهي كناية عن الكتل والاحزاب السياسية، تمارس هذا الفعل العشائري بامتياز، لانها وحسب الظاهر لم تغادر مرابض واسطبلات الخيول، ترويضا وسياسة كما في المعنى العربي لها وهو معنى يفارق المعنى الاخر للسياسة وهو التقنية.

ايها الساسة لديكم برلمان ودستور، فكفوا عن العطوات والمهل، فلا خير في سياسة لا تغادر اسطبلات الخيول.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 6/حزيران/2012 - 15/رجب/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م