عفو عام يتجاوز المساءلة ويقفز على الاجتثاث!

د. نضير الخزرجي

بين الفينة والأخرى تعلن الحكومات عن عفو عام عن المعارضين وكذا الفارين من خدمة العلم أو أصحاب الجنح، وتتلمَّسُ بلين الكلمات ولطائفها منهمُ العودة إلى صفوف الشعب وأحضان الوطن والعمل معاً من اجل بناء البلد والدفع به نحو الرقي والتقدم، وهي عبارات طالما ألفناها وسمعناها من حكومات طابعها شمولي، لأن المعارضة وهي أمر قائم لا مندوحة عنه في عالم السياسة تأخذ في الحكومات الشمولية طابع العنف والعنف المضاد، فتأتي السياقات الحكومية لكسر شوكة المعارضة السلمية وغير السلمية وتقليم أظافرها، ومن الطبيعي أن تنشأ في مثل هذه الأجواء مجموعات خارجة على القانون تعبث بمصالح الأمة، وقد تتلبس الأخيرة لبوس المعارضة فيضيع الحابل بالنابل، فيركب صالح المعارضة السياسية وطالح المخالفة القانونية قارباً واحداً، وهو من سيئات الواقع السياسي في أي بلد، لأن النتيجة فيما لو تغير نظام الحكم أن تضيع الموازين ويصبح أمناء الأمة سرّاقَها، وسرّاقُها أمناءها، ويصعب على المواطن الحصيف التفريق بينهما فما بالك بغيره!

ومن الطبيعي أن عفو الحكومات ليس مفتوحا على آخره، فهو مقيد بزمان وربما بمكان، ويستوجب في معظم الأحيان نزع المعارض من كل أسلحته إن كانت بندقية وعتاداً أو قلماً ومداداً، كما أن العفو مقيد ومحدد مهما بدا للآخر أنه محبذ ومسدد، فالمدة الموضوعة سدود والشروط المعهودة حدود، ولذلك لا يستجيب الجميع لعفو الحكومات الشمولية، فالشك سيد الموقف والخوف مولاه وإن أولى الحاكم لعفوه ما أولاه، وإن آب المعارض أو رجع المخالف، مشى بين ظهرانيي القوم خائفاً يترقب يتربصون به ريب المنون.

بيد أن عفواً آخر من نوع مغاير ليس بحاجة إلى شروط، مفتوح الأبواب بلا حدود، يستقبل المعارض والمعاند وصاحب الجنحة والجناية بلا عدِّ معدود في السر والعلن، وإن كان الأولى في الخفاء دون الجهر، هو العفو القادم من رب الممالك والأرباب الذي يدعو العبد في كل آن وحين إلى الأوبة عن الحوبة وولوج دائرة التوبة، وهو ولوج سهل يستوعب كل النادمين عن الذنب صغر أو عظم، والعائدين إلى جادة الصواب المتنكبين عن حافة الخراب، ولأن التوبة بعينها عبادة إذا أقبل التائب على ربه خير رفادة، كان لابد لها من أحكام تناولها الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي في كتيب "شريعة التوبة" الصادر حديثا (1433هـ - 2012م) في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 53 صفحة مستوعباً 84 مسألة شرعية مع 43 تعليقاً للفقيه القاضي الشيخ حسن رضا الغديري، على أن المقارنة هي مقارنة تجوزية لتقريب المعنى لا مقارنة حقيقية، فرحمة الله وسعت كل شيء، وكلماتنا قاصرة عن أداء المعنى وإن تعددت قواميس اللغة أو كثرت.

عبادية لا عبودية

ولا يخفى أن هناك بوناً شاسعاً بين العودة إلى حكومة المربوب وحكومة الرب، فالأولى في معظم الأحيان تتحول إلى أوبة تنطق معالمها وشواخصها بالذلة والعبودية، فيكون الآئب أسير سلطة العبد الحاكم، لها أن تأخذه في أي وقت بما تراه جرماً سابقاً فيذعن العائد ويتملك وربما يمارس ما تمارسه السلطة من استعباد للآخر، فتصبح مثل هذه العودة عبوديةً ما بعدها عبوديةٌ، يندم عليها ويدعو على نفسه بالموت مُسكِّناً ألَمَهُ وبباطن الأرض مسكناً راحةَ بدنه، ولكن الرجوع إلى الله هي أوبة ظاهرها التحرر من الذنب وباطنها العبودية للرب يتعامل معها المعبود تعامله مع العبادة فيحب الله التوابين كحبه للمتطهرين: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) البقرة: 222، فالتوبة كما يرى الفقيه الكرباسي: (صحوة ضمير تظهر على قلب المؤمن ليصحح مسيره بعد أن انحرف عن جادة الصواب والتي بوصلتها تتجه نحو الله)، ولهذا فالتوبة: (لطف إلهي في اتجاهين، الأول: في قابلية النفس البشرية للإنفلات عن هذه الصحوة في الضمير، والثاني: فتح الله هذا الباب لإعادة العبد إلى مساره الطبيعي دون أن يطرده بمجرد العصيان، بل جعل التوبة بحد ذاتها عبادة).

 ولاشك أن التوبة عن الذنب أو المعصية تتطلب تطهير النفس من أدرانها بأدوات معنوية وممارسات مادية تدخلان في باب التعبد، فكل أداء حسن حتى النية هي عبادة، والله يقبل التوبة من عباده وهو القائل في محكم كتابه: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) التوبة: 104، بل إنَّ الشك في ذلك معصية، وفي ذلك يقول الكرباسي: (الإعتقاد بأن الله لا يقبل التوبة بحد ذاته معصية)، وهو يوجب الإثم كما يضيف الغديري في تعليقه، وحيث لا ينبغي اليأس من رحمة الله فإن لا ينبغي تيئيس العبد من ذلك، ولذلك يرى صاحب الشريعة أنَّ: (القول للآخر بأنَّ الله لا يغفر لك فيما إذا وجده عاصياً فإن هذا القول بحد ذاته محرَّم، وكذا الحلف على أنَّ الله لا يغفر لفلان، إلا إذا كان علماً في الإجرام ولم تُعرف له توبة ولم تكن معصيته من موارد حقوق الناس)، فالإنابة هو مقصد الرب وهو الداعي في محكم كتابه: (قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) الزمر: 53-54، فلا ينبغي من بحر رحمة الله القنوط، لأنه: (ومَن يَقْنَطُ مِنْ رحمةِ ربِّه إلاّ الضَّالُّونَ).

 ومن نافلة القول أن: (الإستغفار والإنابة والتوبة تتم إلى الله وحده دون غيره وحتى وإن كان من الأنبياء والرسل لأن العصيان هو مخالفة أوامر الله ونواهيه، فالغفران منه وحده وطلب المغفرة إليه وحده)، على أن الله وضع وسائل للتقرب إليه، ولذلك: (يجوز التوسل إلى النبي الخاتم (ص) والأئمة المعصومين(ع) وتقديمهم بين يدي الله لوجاهتهم عند الله وقربهم إليه جل وعلا للصفح عنه، كأن يقول إلهي بحبِّك رسول الله إقبل توبتي واغفر ذنوبي واصفح عني)، وعند الشيخ الغديري: (بل ويستحب ذلك لأنَّ الله سبحانه وتعالى أمرنا بالتوسل إليهم(ع) والأدعية المأثورة عن النبي(ص) وأهل بيته الطاهرين(ع) تدل بوضوح على محبوبية التوسل).

 مساحة الإنابة والإستغفار

وربما يجد البعض مائزاً بين الإستغفار والتوبة، لكن الكرباسي يرى أنَّ: (الإستغفار والتوبة شبه متلازمين، حيث إنَّ طلب الغفران هو ظاهر في الإنابة والتوبة إلا والعياذ بالله أن يكون من لقلقة اللسان)، فيما يرى الغديري أنَّ: (الإستغفار أعمّ من التوبة فإنها عبارة عن الرجوع بعد الإرتكاب بينما الإستغفار يكون قبل الإرتكاب وبعده وحتى من دون ارتكاب أيّ ذنب فهو أمر مطلوب ومحبوب عند الله سبحانه وتعالى وفيه جانب من الدعاء)، وفي الحالتين فإنَّ الإستغفار والتوبة تتجاوزان حدود الفردية إلى الجمع العام فيستغفر للآخر الفرد أو المجموع، للقريب أو الغريب، للرفيق المحالف أو الخصم المخالف، ولذلك كما يرى  الشيخ الكرباسي: (يجوز الإستغفار للغير ولا يحتاج إلى إذنه حتى وإن كان خصمه) بل: (وقد يستحب ذلك) كما يرى الشيخ الغديري وهذه واحدة من موارد التآلف الجمعي والتراحم المجتمعي الذي يؤكد عليه الإسلام ويدعو إليه لشدة لحمة المجتمع واستمطار رحمة الله.

وليس للتائب إظهار توبته حتى يُقال أنه تائب أو يُشعر نفسه بالإطمئان تجاه الآخر أو استجلاب رضاه، فيكفي ذلك الأوبة والعودة دون ضجيج، بل يكفي: (الندم توبة) كما يقرر ذلك الرسول الأعظم(ص) وكما قال حفيده الإمام محمد الباقر(ع) : (كفى بالندم توبة)، والندم هو التوبة والأوبة كما يقرر الإمام علي بن أبي طالب(ع) مؤكداً أنَّ: (مَن ندم تابَ ومَن تابَ أناب)، ويقرر عليه السلام أيضا: (المقرُّ بالذنب تائب)، والندم على الذنب والعودة إلى رصيف الحق والعمل بمقتضى الحال هو مصداق التوبة النصوح التي يدعو إليها رب الحكومات والأرباب: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) التحريم: 8.

وبالتبع، فلا يصح للأوّاب الإشهار فإظهار المعصية للآخر هي المعصية بعينها كما يرى الكرباسي، وذلك: (مَن عصى الله يجب عليه كتمان أمره ولا يجوز له إظهار ذلك لأنَّ في إظهاره حرمة ومعصية ويجب عليه التوبة) ولذلك: (إذا تاب العاصي لا يجوز له إخبار أحد بالمعصية) ولكن إذا أخبر بالمعصية: (فلا إثم عليه، كما لا حدَّ ولا تعزير عليه بل عليه أن يستغفر ويتوب) كما في تعليقات الغديري، إذن من الخطل الإشهار لأنه قد يقع في محرّم آخر وهو إشاعة الفحشاء المنهي عنها، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)، فالله الرحيم بعباده كما فتح بابه للتائب صانه من الفضيحة، على أن المعصية فيها جنبة اجتماعية ولذلك فـ: (التوبة في المعاصي التي فيها حقوق الناس لا تُقبل إلا بعد أداء تلك الحقوق أو كسب رضى أصحابها)، أما فيما يتعلق بحق الخالق فإن: (المعاصي التي ليس فيها حقوق الآخرين كترك الصلاة أو شرب الخمر، إذا تاب غفر الله له ذنبه فوراً) لأن الله أرأف بعباده من الأم برضيعها وسبحانه وتعالى يريد خير عباده في الدنيا والآخرة، وهو أقرب إلى العبد من حبل وريده والمستجيب لدعوته، فالتوبة أوبة من الظلمات إلى النور، والله يحب النور لعباده.

 ومن منّا لا يحب غمرة النور والعيش في بحبوحته؟ .. تساؤل في غير محله لجلاء النور في رابعة النهار!

* الرأي الآخر للدراسات- لندن

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 30/آيار/2012 - 8/رجب/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م