عندما تموت المبادئ تموت الحضارات

رؤى من أفكار الامام الشيرازي

 

شبكة النبأ: الامم الحية قائمة على قواعد مبدئية تستند إليها في إدارة شؤون الناس المادية والفكرية معا، فإذا اختلت هذه المبادئ تختل المجتمعات ايضا، وسبب إختلال المبادئ يكمن أساسا في كونها تخالف فطرة الانسان أولا، ثم التطبيق الخاطئ لها من لدن الانسان نفسه، حيث يجعل من المبادئ غير ذات أهمية بسبب عدم تطبيقها الصحيح، الامر الذي يقود الى موت الكثير من الافكار والطروحات والمناهج الفكرية والعملية، بسبب انحراف تلك المبادئ او عدم تطبيقها بالصورة الصحيحة.

الغرب رفض المسيحية

من الامثلة التي تثبت لنا انحدار الانسان الى الحضيض فيما لو ترك القيم والمبادئ الصحيحة، هو التعامل الخاطئ للغرب مع المسيحية، حيث استبدلوا الروح بالمادة، وتلفعّت حياتهم بالمنهج المادي كليا، وصارت تبتعد رويدا عن الدين والروح وتهمل الجانب الروحاني المبدئي، فقادها ذلك الى الانحدار نحو التزمت المادي الذي اقصى الروح تماما، لذلك تلاشت الكثير من المبادئ والحضارات ايضا.

في هذا المجال، يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في كتابه القيّم الموسوم (من أسباب ضعف المسلمين): (أما بعد، فقد رأى العالم كيف تموت المبادئ غير الصحيحة والتي تخالف فطرة الإنسان، فلم تنتشر إلا في ظروف خاصة يحكمها الجهل حتى إذا ما وعت الشعوب ولو بعد مضي سنوات أو قرون نبذوها وراء ظهورهم. كما رأى العالم كيف أن الغرب المسيحي رفض المسيحية واستبدلها بالعلمانية والمادية، وذلك لأن الإنجيل المحرف لا يملك من القدرة والشمولية ما يستوعب الحياة في كافة مراحلها، حيث لم يبق منه سوى بعض الوصايا وقد بدلوها أيضاً ولم يعملوا بها، فقد روي عن السيد المسيح العظيم -على نبينا وآله وعليه السلام- أنه قال لبعض أصحابه: «ما لا تحب أن يفعل بك فلا تفعله بأحد، وإن لطم أحد خدك الأيمن فأعطه الأيسر. ولكنهم صيروها إلى قنابل وصواريخ وحربين عالميتين وحروب لا تعد ولا تحصى في بلاد المسيحية وغيرها التي يقودها العالم الغربي، إلى ألف شيء وشيء).

ولم يقتصر موت المبادئ في ساحة الغرب فحسب، إنما حدث ذلك بدول وامم اخرى كما يشير تأريخنا الحديث، فكل الافكار التي لا تتسق مع الفطرة الانسانية مصيرها الزوال، ناهيك عن الضرر الذي يلحق بمؤسسيها او الذين يروجون لها كما حدث مع الشيوعية، إذ يقول الامام الشيرازي بهذا الخصوص في كتابه نفسه: (كما رأينا ولادة الشيوعية قبل سبعين سنة وسقوطها ولما تكمل ثمانية عقود، لأنها لا تزيد عن أمر خيالي، والخيال لا يلائم الحياة وان قتل ستالين لتثبيتها خمسة وعشرين مليوناً، وقتل ماو لتطبيقها أربعين مليوناً).

ديمومة المبادئ الاسلامية

إن الفكر الحي هو الذي يتفق مع فطرة الانسان، وهو أمر أثبتته وقائع التاريخ وتجاربه، وما يخرج عن هذه القاعدة سينتهي الى الانطفاء كليا، لذلك لاحظنا موت بعض الموجات الفكرية التي خطط لها اصحابها البقاء ابدا، لكنها لم تصمد لعدة عقود فقط (كما حدث مع الشيوعية مثلا)، وهذا دليل على نقصانها وعدم تلبيتها لحاجات الانسان الروحية، في حين هناك ديمومة في الفكر الاسلامي الخلاق، الذي لايزال يتصاعد كلما تقادم عليه الزمن، والسبب أن الفكر القيّم والمبادئ الصحيحة هي التي تقف الى جانب الانسان وتدعمه، وليست تلك الافكار التي تدمر كيان الانسان وشخصيته وكرامته، لذا بقي الاسلام خالدا بمبادئه وتعاليمه وافكاره بسبب قربه واتساقه مع الفطرة الانسانية، كما نقرأ في قول الامام الشيرازي: (الإسلام هو الدين الوحيد الذي بقي منذ خمسة عشر قرناً يواكب الحياة في كافة مراحل تطورها بالرغم من قسوة الحكام المتسلطين وأعداء الدين وسيبقى إلى يوم القيامة لأنه دين الفطرة).

إن الفكر الاسلامي جاء متكاملا، كمنهج حياة متطور ومواكب على الدوام لكل ما يستجد في العصور المتتابعة، ولكن هناك اسباب أدّت الى اختلال في تطبيق المبادئ الاسلامية على حياة الناس، ومن جملة الاسباب بل أهمها ظاهرة الطغيان والتشبث بالسلطة، ما أدى الى بزوغ ظاهرة القمع والاستبداد، والتمسك بالعرش بكل الاساليب البعيدة عن الانسانية، كما نقرأ ذلك في قول الامام الشيرازي في كتابه المذكور نفسه: (إن ما نشاهده اليوم من حالة ضعف المسلمين هو نتيجة أمور عديدة، من أهمها ما سببه الحكام الطغاة، غير الشرعيين، على مر التاريخ من الأوائل والأواسط والأواخر، فإنهم من وراء حالة ضعف المسلمين التي نشاهده ونلمس آثاره حتى اليوم، فان الضعف السابق والوسط واللاحق يسبب ضعف المستقبل أيضاً كما هو في صحة الإنسان فان الإنسان الذي لا يراعي صحته في صغره لابد وأن يكون في كبره معرضاً للآفات والأسقام وما أشبه).

لماذا ضعف المسلمين؟

كذلك هنالك استخفاف بالوقت، وعدم مراعاة لبعض تقاليد الحياة التي ينبغي على الجميع الحفاظ عليها، ومها على سبيل المثال احترام الوقت والتعامل معه بجدية واحترام، وهذا دليل قاطع على تحضّر الانسان وعدم تفريطه بفرص التقدم، ناهيك عن الالتزام بالمبادئ الصحيحة التي تحث على التمسك بتطوير الذات، لذا يقول الامام الشيرازي في هذا الصدد: (كما انا لا نرى أهمية للوقت، فمثلاً ترى الصديق يواعد صديقه قائلا: سآتيك في الساعة الخامسة مثلاً، وينتظره الصديق في الساعة الخامسة، فلم يحضر! وتتقدم الساعة لتشير إلى الخامسة وعشرة دقائق، ومن ثم الخامسة والربع، والخامسة والنصف، والخامسة وثلاثة أرباع، ثم السادسة أو أكثر، وإذا به يأتي وكأنه قد حضر قبل الموعد، فلما تسأله: لماذا تأخرت عني؟ يضحك ويقول وبكل بساطة: نعم انشغلت قليلاً ولم أتأخر كثيراً. أهدر ساعة من وقت صديقه وكأن هذه الساعة عنده لا شيء).

نعم هناك قيم وتقاليد اسلامية كان ينبغي على المسلمين التمسك بها، وتطويرها في ذواتهم من اجل مواكبة الحياة المعاصرة، وفقا لمنهج توافق الفطرة مع المبدأ وبالعكس، ولكن هناك خلل من   المسلمين أنفسهم، فالاسلام ليس تأدية فرائض وحسب انما هناك سلسلة متواصلة من قيم العمل والانتاج وغيرها، ينبغي الالتزام بها من اجل حفظ الحضارة الاسلامية، استنادا الى خلود الفكر الاسلامي، لذلك مطلوب من المسلمين التنبّه الى أهمية المبادئ الصحيحة، وجعلها كخريطة طريق للتقدم والتطور والاستقرار، ولكن يبقى الخلل قائما بالنسبة للمسلمين ما لم تتم معالجة الاخطاء، كما نقرأ ذلك، في قول الامام الشيرازي بالكتاب المذكور نفسه: (نعم إن المسلمين اليوم يصلّون ويصومون، ويزكون ويحجون، ولكنهم تركوا الكثير من القوانين الإسلامية).

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 28/آيار/2012 - 6/رجب/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م