عراقيون في دوامة الانهماك!

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: انه منهمك، جملة مكتفية بنفسها، انْهَمَكَ فلانٌ في الأَمر: جدَّ وثابر فيه برغبة وحرص... وحين تريد ان تستزيد، تأتيك الصفات والدلالات مكتظة، كثيرة، واسعة.

انه منهمك، بطعامه، بشرابه، بحواره، بجواره، بعدّ نفوده، بتدبير مؤامراته، بتجميل هندامه، بخواء روحه، بما يحمل في جيوبه. هو منهمك اشد الانهماك، بصره يحدد وجهة الانهماك احيانا، نظرا وتركيزا، واحيانا اخرى شرود هذا البصر يكشف عن تفاصيل اخرى لهذا الانهماك المشدود لفكرة، او وهم، او خيال.

والانهماك في اغلب حالاته يستدعي لذة في الشيء المنهمك به ولاجله. الا في حالات المرض او تدبير شؤون المعاش والحياة، فانه يستدعي حالة من القلق، قلق الضعف والعجز والتمني. لكنه في اللذة قلق من نوع اخر، قلق التوتر والتحفز والاشتهاء.

حين تقلب نظرك في الطرقات، وفي اي مكان تذهب اليه تجد انهماكات عديدة للمنظور اليهم.

في مباراة نهائي البطولة الاوربية، بين بارن ميونخ وتشلسي، اللاعبون منهمكون بالجري خلف الكرة، والجالسون منهمكون بلعبة الدومينو، لاشيء يثير انتباههم حتى الكرات الخطرة نحو المرمى، فالدوشيش والجهار وبينج هو الذي يجعلهم منهمكين في مداعبة تلك الاحجار بين اصابعهم... اخرون منهمكون بجلستهم المسترخية التي حتمتها سمنتهم المفرطة رغم مراهقتهم السنية، وهم منهمكون ايضا باللعب باجهزة الموبايل التي بين ايديهم.

في السياسة وحولها ياخذ الانهماك صورا متعددة، منها مثلا انهماك ساركوزي الرئيس الفرنسي سابقا والرئيس الامريكي اوباما في النظر المنهمك لقوام احدى النساء، ومثل اخر في انهماك اوباما وميدفيديف الرئيس الروسي السابق انهماكا بسيطا وعفويا وشعبيا في احد مطاعم الوجبات الامريكية السريعة، وهو انهماك المضيف بضيفه، على العكس من انهماك اخر لاحد امراء الخليج وضيوفه حول موائد عامرة قد تكون سببا من اسباب الفقر والجوع في عالمنا العربي، وفي عدم العدالة في توزيع الثروات.

في السياسة العراقية الانهماك له اشكال اخرى... اياد علاوي منهمك بتدبير ما يمكن ان يطيح بعدوه اللدود نوري المالكي.

مسعود البرزاني منهمك بحلمه الانفصالي وطموحه ان يصبح الباب العالي، تأثرا بجواره العثماني.

السيد مقتدى الصدر منهمك بضبط خطواته، خطوة الى الامام، خطوة الى الوراء، الهاشمي منهمك بترتيبات العودة لبلده لخدمته وخدمة شعبه، طالباني منهمك بمرضه وسفره، وبصراع التوافقات والتلفيقات للخصوم المتصارعين، مجلس النواب منهمك كل بكتلته او بقائمته، بامتيازاته، بصلاحياته، بتقاسم السلطات، وكل هذا الانهماك تحت شعار خدمة الشعب المسكين.

الشعب منهمك هو الاخر بالانصات، بالنظر الى قادته، ساسته، وزرائه، رياسته، فساده، فاسديه، مفسديه، انه منهمك بتحسره، بندمه، بفرصه التي ضاعت منه. لا يرفض الفساد لانه مرفوض، بل يرفضه لانه غير قادر على الاشتراك فيه.

الشعب منهمك بطقوس حياته اليومية، بالوطنية، بالمولدة، بالخطوط العادية والذهبية والفضية، منهمك بما حضر في البطاقة التموينية وبما غاب عنها. منهمك في استساخ المقدسات الاربعة (هوية الاحوال المدنية – شهادة الجنسية العراقية – بطاقة السكن – البطاقة التموينية).

انهماك في جميع الزوايا والاتجاهات، المتسولون منهمكون، والمتسولات ايضا، في الشوارع، في الازقة، عند اشارات المرور، في مواقف السيارات، منهمكون بصدقة قليلة تدفع بلاوي كثيرة، بصدقة يوم الخميس، بصدقة يوم الجمعة، وايام اخرى ثوابها اقل من ذلك، والسخي حبيب الله.

الرجل منهمك بتدبير قوت عائلته، المرأة منهمكة باعداد وجبة الغداء التي ما تنقضي حتى تبدأ التفكير بوجبة العشاء، والمرأة العاملة منهمكة بحقيبتها اليدوية وما تحمله، من اقلام للشفاه، ومعطر للجسم، ومبيض للبشرة، واقلام الكحل، انه خلط دائم بين الجمال والانهماك في العمل (عيشي حياة رجل، ولكن ابقي امراة). الابناء منهمكون بالعاب البلي ستيشن وبافلام الرسوم المتحركة... الجميع منهمكون، هل من وقت مستقطع لترميم ارواحنا وافكارنا ومشاعرنا؟

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 26/آيار/2012 - 4/رجب/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م