فشل أو عدم قدرة القيادة – أية قيادة - على تحقيق آمال الشعب
ومطالبه الاساسية، سواء كانت مطالب التنمية والاستقرار بالنسبة للشعوب
المستقلة، او مطالب تحررية وطنية إن كان الشعب خاضعا للاحتلال كالحالة
الفلسطينية، فهذا أمر وارد ويمكن تفهمه إذا تَلمس الشعب مصداقية عند
قادته، ولكن أن يُصاحَب هذا الفشل بفشل في إدارة الأزمة والصراع و فشل
في وضع استراتيجية للحفاظ على الذات الوطنية، وفشل في الحفاظ على ما تم
انجازه سابقا، وفشل في إبقاء جذوة الامل متقدة في قلب وعقل الشعب،...
فهذا هو الفشل المُعمم الذي لا يُغتفر ولا يقبله عقل عاقل.
غالبية شعوب العالم تعرضت لهزيمة عسكرية أو لانحدار حضاري، وكثير
منها خضع لاحتلال خارجي لعقود وبعضها لقرون. فكل أوروبا خضعت
لإمبراطوريات غيبت هويتها وثقافتها الوطنية لعقود طويلة، وبعد ذلك خضعت
لاحتلال نازي لعقود وبعضها لهيمنة كيانات شمولية كالأمم التي خضعت
للاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا سابقا، بالإضافة لخضوع كل
دول العالم الثالث للاستعمار فالجزائر مثلا خضعت لاستعمار فرنسي لمدة
130 سنة.
مع ذلك نهضت هذه الأمم وأعادت بناء نفسها وفرضت حضورها مجددا كدول
مستقلة ذات سيادة، ولم يكن الأمر في جميع الحالات عائدا لانتصارات
عسكرية حققتها الشعوب بل لقدرة هذه الشعوب على الحفاظ على هويتها
وثقافتها الوطنية ولوجود نخب سياسية واجتماعية حريصة على مصلحة الشعب
وترفض المساومة على حقوقه.
هذه الإطلالة التاريخية ضرورية لتبيان أن الهزيمة في معركة او
اختلال موازين القوى لصالح العدو في حقبة ما، لا يبرر الاستسلام للأمر
الواقع والتخلي عن الحقوق الوطنية أو فقدان الثقة بالذات. لا يمكن لأي
قوة أو دولة أن تشطب وتلغي وجود شعب آخر له هوية وثقافة، إلا إذا ما
تخلى الشعب ذاته عن هويته وثقافته وتاريخه، فما بالك بالشعب الفلسطيني
الذي تعداده أكثر من احد عشر مليون نسمة ويعود تاريخه لأكثر من أربعة
آلاف سنة- حتى التوراة اليهودية تتحدث وتعترف بوجود الشعب الفلسطيني في
فلسطين قبل مجيء اليهود إليها -، كما انه شعب لم يتخل عن هويته وثقافته
الوطنية وما زال متمسكا بحقوقه الوطنية ومتجذرا في أرضه.
لا تقاس عدالة القضية الفلسطينية وشرعية الحق الفلسطيني بواقع
النظام السياسي ونخبه ولا بالعجز والفشل في تحقيق هذه الأهداف، فالحرب
سِجال، وموازين القوى غير ثابتة، ومقاييس النصر والهزيمة لا تُحتسب
عسكريا فقط، بل تقاس بمبدأ العدالة والحق بحد ذاته وبمدى استمرار الشعب
متمسكا بحقه، ثابتا على مواقفه، مستعدا للنضال من اجل استعادة هذا الحق.
إذن إن تحدثنا عن الخلل أو الاسباب الاستراتيجية للحالة الفلسطينية
المأزومة وعدم قدرة الفلسطينيين على تحقيق أهدافهم الآن فيمكن إرجاع
الامر إلى اختلال موازين القوى وفي تحالفات وعلاقات دولية غير مواتية،
ولكن وكما سبق إظهاره فإن هذه امور لا تبرر التخلي عن الحق والحقوق وهي
امور متغيرة لا تثبت على حال، المشكلة اليوم تكمن في نخب فلسطينية
ونظام سياسي فشلا في إدارة الصراع وفي الارتقاء لمستوى عدالة القضية
وعظمة الشعب وفي وضع استراتيجية لتغيير الواقع وللحفاظ على الذات
الوطنية إلى حين تغيير موازين القوى وتغيير المعادلات الإقليمية
والدولية.
تراجع وغياب استراتيجية التحرير أدى إلى وقوع النخب في حالة من
الإحباط واليأس والبحث عن الخلاص الشخصي، والتسابق على الاستفادة من
توزيع تركة مرحلة التحرر الوطني والجهاد أو توظيف شعارات تلك المرحلة
لتضفي النخب الحاكمة على نفسها شرعية مُفتَقدة.
عدم موائمة التوازنات الدولية والإقليمية لأهداف حركة التحرر
الفلسطينية يجب ألا يؤدي للاستسلام لمشيئة العدو والتخلي نهائيا عن
الحقوق والثوابت، بل على الشعب اللجوء لإستراتيجية الحفاظ على الذات.
المطلوب اليوم من القيادة والنخب الوطنية الحريصة على مصلحة الوطن أن
تشتغل على هذه الإستراتيجية من خلال إدارة حكيمة للصراع مع العدو،
وإدارة حكيمة للخلافات الداخلية بين مكونات الحالة الفلسطينية.
واهم مقومات هذه الإستراتيجية :-
1- وجود قيادة وطنية موحدة قادرة على إدارة الصراع. هناك فرق بين
القيادة كمؤسسة Leadership Foundation )) ووجود رئيس أو زعيم متفرد
بالسلطة أو يعبر عن مصالح حزب وجماعة، فالدين لا يمنح شرعية لحاكم كما
التاريخ لا يمنح شرعية لحاكم. والخطر في الحالة الفلسطينية يكمن في
التنازع على قيادة الشعب وغياب قيادة تمثل الكل الفلسطيني. وبالنسبة
للقيادة الرسمية الممثلة بالرئيس محمود عباس فإن الحجابة القوية على
الرئيس من المستشارين والموظفين الكبار، تَحُوُّل بينه والتواصل مع
الشعب.
2- مصير القضية الفلسطينية وشعب فلسطين الموجود منذ اكثر من أربعة
آلاف سنة، لا يُحسم بخسارة معركة أو باختلال موازين قوى في لحظة ما،
وليس من حق أحد أن ينهي القضية ما دام الشعب متمسكا بحقه ومتجذرا بأرضه،
وعليه فالقيادة التي لا تستطيع تحقيق الأهداف والثوابت الوطنية محل
التوافق الوطني ليس من حقها التنازل عن هذه الأهداف ويمكنها فقط إدارة
الصراع في إطار الحفاظ على هذه الثوابت وعلى الهوية والثقافة الوطنية
وتبقي الصراع مفتوحا فربما تتاح للأجيال القادمة ظروف أفضل من الوضع
الراهن.
3- العمل على مراجعة المرحلة السابقة ومصارحة الجماهير بالحقيقة،
وكذا إعادة تقييم شبكة العلاقات مع الأصدقاء والحلفاء، أو إعادة النظر
في صحة التصنيفات السابقة لمعسكر الأصدقاء ومعسكر الأعداء ومعسكر
المحايدين، وخصوصا بعد ما كشفته التحركات الشعبية العربية، وفشل
المفاوضات والمقاومة معا.
4- البحث عن مكامن ومصادر القوة الذاتية، ولا شعب إلا وله مصادر
قوة. إن لم يكن متاحا ممارسة الكفاح المسلح الآن فيمكن ممارسة المقاومة
الشعبية والعصيان المدني ومواجهات مباشرة مع الاحتلال قد تبدأ بالحجر
كما جرى في الانتفاضة الأولى مع توظيف جيد لوسائط التواصل الاجتماعي
والإعلام والراي العام العالمي، المهم أن يكون ذلك في إطار إستراتيجية
وطنية.
5- تجاوز وإنهاء الخلافات السياسية السابقة والتوصل لإستراتيجية
وطنية جامعة، حتى في ظل وجود انقسام جغرافي، فالثورة الفلسطينية
المعاصرة انطلقت وفرضت وجودها في منتصف الستينيات في ظل الشتات وعدم
وجود تواصل بين التجمعات الفلسطينية.
6- الحفاظ على الثقافة والهوية الوطنية باعتبارهما ضمان استمرارية
الشعب والحق والثوابت، وهذا يتطلب تحويل كل رموز الهوية الوطنية
والتاريخ الوطني كسلاح ثقافي في مواجهة سياسة التشويه والتغييب
والإحلال التي تمارسها إسرائيل في مواجهة ثقافتنا وهويتنا وتاريخنا.
فمن الخطير مثلا وفي إطار استجداء مساعدات عربية أن يقول وزير داخلية
حماس أن نصف الشعب الفلسطيني أصله مصري والنصف الآخر أصله سعودي !، فإن
كنا شعبا لقيطا فعلينا الاعتراف بالرواية الصهيونية اليهودية حول
فلسطين.
7- توفير الحد الأدنى لحياة كريمة للمواطنين بعيدا عن شروط وإذلال
العدو أو الجهات الأجنبية المانحة، وهذا يتطلب اقتصاد تقشف ومراقبة
دقيقة للأموال التي تدخل إلى مناطق السلطة، ونجزم أن ما يدخل لقطاع غزة
والضفة من أموال ومساعدات بالإضافة إلى الضرائب كفيل بان يوفر
للفلسطينيين مستوى لائق من المعيشة ولكن الفساد الرسمي وغير الرسمي
يبتلع جزءا كبيرا من هذه الأموال.
8- من متطلبات إستراتيجية الحفاظ على الذات حماية الذات الوطنية من
كل أشكال التشويه والتشكيك. وانتشار الفساد أو الحديث عن الفساد داخل
المجتمع وداخل أجهزة السلطتين والحكومتين ومؤسسات المجتمع المدني أمر
خطير حيث وبالرغم من وجود أكثر من تهمة فساد لوزراء ومسئولين إلا أنه
لم يُحاسب أو يدخل السجن أي مسئول أو وزير، وكأنه يُراد بالحديث عن
محاربة الفساد مجرد تخدير الجماهير أو مجرد إلهائها – مع كامل احترامنا
للاخ رفيق النتشة إلا أننا نخشى أن تتحول هيئة مكافحة الفساد لأداة
تضليل وإلهاء للشعب -.
Ibrahemibrach1@gmail.com |