كثيرة هي الندوات والمؤتمرات والملتقيات التي تعقد في بلداننا،
وتجمعاتنا الناطقة باللغة العربية في مشارق الأرض ومغاربها، ولكثرتها
فإن المهتم بها بحاجة إلى أعمار غيره حتى يواكبها بأجمعها، ففي كل
مدينة مؤتمرات وندوات وأماسي وصباحات في مشارب شتى، ولكن الغالب عليها
هي التي تأخذ المنحى الأدبي والثقافي من أدب منثور أو منظوم، وذلك
لعلاقة الإنسان العربي بالأدب وبخاصة الأسلوب الذي يدخل في النصوص
الشعرية والنثرية من خطابة ومحاضرات وشواهد شعرية وحِكم ووصايا محكية
شعراً لها علاقة وطيدة بالحياة اليومية.
وربما يفهم من هذا الكلام أن شعوبنا اهتمت بالندوات والمؤتمرات
الأدبية وغفلت عن مثيلاتها في مجالات العلوم الأخرى التي لها المدخلية
الكبرى في تطوير البلد على المستويات كافة، فالأمر ليس كذلك، فمثل هذه
الإهتمامات لا ينبغي أن تكون عائقا عن عقد النظائر من المؤتمرات
والندوات في الحقول العلمية المختلفة، لكن الثابت أن الأدب لون من
ألوان الحياة يتذوقه العالم والمتعلم، ولذلك كان العلماء في صنوف
العلوم حتى وقت قريب هم أدباء وشعراء أو متذوقون للأدب والشعر، فالطبيب
والفيلسوف والكيميائي والفقيه والأصولي والفيزيائي وأمثالهم هم من طبقة
الشعراء أو من القريبين منه، لما للأدب المنظوم من طعم خاص في مذاق كل
إنسان بغض النظر عن مستواه العلمي وطبقته الإجتماعية، ولهذا كان للنظم
في سلم المؤتمرات والندوات ولازال رصيد كبير.
وظاهرة المؤتمرات الأدبية ليست وقفا على الناطقين باللغة العربية،
وإنما هي ظاهرة قائمة في الأمم التي تتذوق عموم الأدب وخصوص الشعر،
ولعلّ أقرب الآداب إلى العربية ولعاً بالشعر وتأثراً بالبحور الخليلية
هو الأدب الفارسي المنتشر في إيران وأفغانستان وطاجيكستان، ومن قبل
الهند، وعلى وجه الخصوص في إيران التي تشهد ندوات شعرية كثيرة محلية
ووطنية وعالمية.
ولأن اللغة الفارسية مزيج من العربية وغيرها، ولأن الإسلام صار
جزءاً من الحياة اليومية لهذه الشعوب، ولأن الأدب الحسيني كما هو الحال
في العراق دخل بقوة في الأدب الفارسي وصار سمة بارزة في أشعار الشعراء
بخاصة في العهود السياسية التي تعاملت بايجابية مع الأدب العربي بعامة
والأدب الحسيني بخاصة، فإن المؤتمرات الأدبية والشعرية المنتشرة في
الأمم الناطقة بالفارسية ليست قليلة ويُسيطر الأدب الحسيني على مساحات
كبيرة منها ولاسيما في إيران التي تحتفل كما في العراق ولبنان والمنطقة
الشرقية وباكستان وافغانستان وغيرها من البلدان، بواقعة كربلاء وذكرى
استشهاد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب(ع) عام 61 للهجرة.
ولا يخفى أنَّ الإحتفال بهذه المناسبة الأليمة يشحن لدى الأديب
ماكنة النظم والإنشاء والإنشاد، ولأن النظم الحسيني يقع ضمن منطقة
اهتمام دائرة المعارف الحسينية، فإن مؤلفها المحقق الدكتور محمد صادق
الكرباسي أولى أهمية كبيرة للأدب الحسيني باللغات المختلفة، فوضع لكل
لغة مدخلها، فكان المدخل إلى الشعر العربي في جزئين، والمدخل إلى الشعر
الأردوي في جزء واحد، وهناك مداخل أخرى للشعر الحسيني في اللغات
الإنكليزية والفرنسية وغيرهما في الطريق إلى الطباعة، فضلا عن المدخل
إلى الشعر الفارسي الذي صدر في جزئين مما يعكس قربه من الأدب العربي
والتصاقه وتأثُّرَه به، وفيما مضى كانت لنا قراءة موضوعية أدبية في
الصحافة العربية للجزء الأول من المدخل الفارسي الذي صدر في 441 صفحة
من القطع الوزيري ونشر تحت عنوان (بحور الخليل تجتاح سواحل فارس مبكراً)،
وهذا هو الجزء الثاني من "المدخل إلى الشعر الفارسي" الصادر حديثا
(1433هـ - 2012م) عن المركز الحسيني للدراسات بلندن في 337 صفحة من
القطع الوزيري، والذي يُعتبر مكملاً لأوله.
بحور من رحم أخرى
لا ينفك الأدب المنظوم في العربية عن الخليل بن أحمد الفراهيدي
(100- 175هـ)، فإليه يعود الفضل الكبير في إيجاد بحور الشعر التي نظم
عليها الشعراء من قبله ومن بعده، كما لا ينفك الأدب المنظوم في
الفارسية عن شمس الدين محمد بن قيس الرازي المتوفى سنة 628هـ فإليه
يعود الفضل الكبير في بيان بحور الشعر الفارسي، على أن للأول الفضل
الأكبر على الثاني.
كما أن بحور الشعر ليست كبحور الأرض معروفة بأسمائها غير قابلة
للتجديد، وإنما هي قابلة للتوليد والتوالد إن تم التقيد بالتفعيلات
الخليلية الثمان (فعولن، فاعلن، مفاعلتن، متَفاعلن، مفاعيلن، مستفعلن،
فاعلاتن، مفعولاتُ) أو زيد عليها، وهذا ما فعله الأديب الكرباسي في
كتابه "هندسة العروض من جديد"الذي مرَّ في تأليفه بمراحل زمنية وانتهى
منه سنة 2004م وطُبع سنة 2011م وفيه زاد على الدوائر الشعرية الخليلية
الخمس وأوصلها إلى 43 دائرة كما زاد على البحور الخليلية الخمسة عشر
إلى 210 بحراً، وكل هذه الولادات البحرية مقيدة بالتفعيلات الخليلية
الثمان وإلا إذا تحرر من دائرة التقييد وهو ممكن فإن الدوائر الشعرية
ستزداد كما ترتفع مناسيب البحور، وفي السياق نفسه سلك الأديب العراقي
المعاصر المقيم في الإمارات ذياب شاهين في كتابه "العروض العربي بدلالة
الرمز والنظام" الصادر عام 2004م عن دار الكندي في الأردن،إذ يبدأ
النظام من الدائرة المفردة التي تحتوي على بحر واحد وتنتهي بالدائرة
السادسة عشرة التي تحتوي على ستة عشر بحرا، وعدد البحور في كل دائرة
يساوي رقم تسلسلها في الهرم العروضي، على أن التجديد في الدوائر
والبحور ليس حكراً على البحور الخليلية، فقد طرأ التجديد والتواليد على
بحور الرازي في الأدب الفارسي أيضا، وهذا ما يبحثه الأديب محمد صادق
الكرباسي في الجزء الثاني من المدخل حيث رصد خمس عشرة دائرة شعرية من
الدوائر الحديثة ضمت 58 بحراً وأعطى لكل دائرة اسماً كما فعل في البحور.
ولقد جاءت تسميات الدوائر على النحو التالي: المؤتلفة، المهجورة،
المختلفة، المستحدثة، الجديدة، المتفقة الأولى، المنتزعة، المجتلبة،
المترادفة، الحديثة، المُحدِثة، المُستجدَّة، المتفقة الثانية،
المختلفة، ودائرة الدوبيت، وأما البحور ووفق الحروف الهجائية هي:
الأخرس، الأصم (المستطرد)، الباعث، البديل (المركب)، البسيط، الحميد (المُقَضَّب)،
الحميم (المُتَسَرِّع)، الخفيف، الرجز، الرمل، السريع، السليم (المُسَرَّح)،
الصريم (المتضارع)، الصغير (المخفف)، الطويل، العريض (المستطيل)،
العميق (الممتد)، الغريب (الجديد= المتئد)، القاطع، القريب (المنسرد)،
القليب (المتسرد)، الكامل، الكبير (المُستَقْضَب)، المبهم، المتدارك،
المتقارب، المجتث، المديد، المُرَجَّز، المرجوز، المُسْتَرجَزْ،
المستزاد، المستعمل، المشاكل (مجزوء المُطَّرَد)، المُشتَرَك، المشتق،
المصنوع، المضارع، المعجم، المعكوس، المعين، المقتضب، المُنسَرح،
المهمل، الهزج، الوافر، الشارد، الشاذ، الطرف، الغرب، الشرود، المغرَّب،
المهجَّر، البعيد، المبعِّد، المحذوف، المستغرب، والمستبعد.
غزليات العرب والعجم
لا يستعذب الشعر الفارسي إلا من يجيد الفارسية، كما لا يستعذب
العربية إلا من يجيدها، لكن الكرباسي في المدخل وقد ذكر الكثير من
الشواهد على الدوائر والبحور من الشعر الفارسي حاول قدر الإمكان ترجمة
الأبيات بما يقرب المعاني إلى الذائقة العربية باستخدام نمط المصرعات
أي باتحاد نهايات الصدر والعجز من حيث القافية، وهي مهمة ليست بالسهلة،
ولكن تمكن الكاتب من اللغتين العربية والفارسية أعطى للترجمة كنهها
وبلاغتها، من ذلك ترجمته في الحبيب في بحر المخفف يناشد حبيبه لئلا
يحرمه من لحظاته ونظراته:
لا تدر وجهك عني يا مليحي .... لانك أنت المداوي لجروحي
أو ترجمته لبيت ورد في شاهد لبحر الأصم المستطرد، يناجي فيها الحبيب
حبيبه وينشده باسم الوصال المقدس أن لا يبتعد عنه:
لا طاقة لي يا حبيبي بالفراق ..... ليس لي حيلة غير وصلك في اشتياق
أو ترجمته لبيت في شاهد على بحر الرمل يشبّه فيه شفَة الحبيب ورضابه
بنبات طري مشهور لدى أهل مصر حلو المذاق:
شفتيك قبّلتُ فما حيلتي حديثك هو حلاوَهْ
وما عملي فالنبات المصري كثير
الطلاوهْ
أو ترجمته لشاهد بحر الهزج في حبيب يسائل حبيته عن الصد والغنج:
لماذا الصدِّ حبيبتي ولمَ تهجرينا .... وعلينا بسحرك دوماً
تتبخترينا
ومثله من بحر الهزج معاتبا الحبيب:
كمْ ذا يا حبيبي منكَ أُصبتُ .... وفي فؤادي كم برمحٍ طُعِنتُ
ومن بحر المضارع جاءت ترجمة الشاهد في حبيبة أسكرها العشق:
أتتْ تطرق الباب حبيبتي وهي سكرى
يا لطفها تلك التي حملت إليَّ مراراً
الياسمين والزهرا
ومن بحر المديد يصف في الشاهد شمائل الحبيبة وقامتها المتماثلة مع
شجرة السرو:
خصائلها المسكُ غاليةً وعارضُها الياسمينْ
وقدّها السَّرو قامةً وشعرُها سلاسلُ
الرياحينْ
وعلى هذا المنوال تجري الشواهد وهي في معظمها في الغزل، على أنَّ
مفردات الغزل في مؤادها العام قائمة على التشبيب بالذكور والإناث كما
هو طبيعة الغزل في الشعر العربي وهو ما يفهم من الترجمة العربية أيضا،
ولكن الغزل في الأدب الفارسي له أغراض أخرى تسمو على غيرها وهو ما
يبحثه المؤلف في عنوان مستقل في بيان معنى الغزل وتماهيه مع العشق
والحب المفرط، وزاد الغزل في الفارسية على العربية بشكل عام أن الحب
يتعدى الحبيب إلى: (حب الطبيعة أو المعرفة أو العلم، حتى يصل إلى حب
الله عز وجل)، وهنا يلتقي الشعراء مع أهل العرفان والفلاسفة في مناجاة
المعشوق الأكبر وهو خالق الكون حتى ليوحي للسامع أنّ الشاعر أو
العرفاني أو الفيلسوف في نثره ونظمه يناجي الحبيب أو الحبيبة الإنسية،
وقد يشط البعض في الفهم فيوصم العرفاني أو الفيلسوف أو الشاعر بما
يخرجه عن الملة ويضعه في دائرة الفسوق، ولهذا يميز الأديب الكرباسي بين
التشبيب عند العرب والغزل العرفاني عند الفرس إذ أن: (الإشتياق للقاء
الله سبحانه وتعالى ومعرفة ذاته وصفاته يعبرون عنه بالعشق الأكبر ويقول
الفلاسفة والعرفاء: إذا لم يكن هناك عشق في أعلى مستواه لاضمحلت
الموجودات كلها وهو الذي حافظ على كيان الوجود أصلاً، وعشق الحكماء
والعلماء يكون في التعمق في خلق الله والموجودات والمخلوقات، وأما
العشق الجنسي فهو عشق مجازي عندهم ولا يعد من العشق الطاهر المجرد
والواقع الوجودي).
وإذا كانت الأبيات الغزلية تأتي في القصيدة استطرادا، فإن في الأدب
الفارسي نوعاً من المقطوعات الغزلية تسمى "الغزليات"، وتقع المقطوعة
الغزلية في خمسة إلى خمسة عشر بيتاً في وصف المعشوق ومدحه، وهذا النوع
من الأدب المنظوم تتميز به الفارسية إلى جانب تميزها بالمثنويات: "وهي
المصرعات أو المزدوجات"، والرباعيات وهي: "المتألفة من أربعة أشطر
قافية الأول والثاني والرابع متطابقة وأما الثالثة فهي حرة"،
والترجيعات وهي: "باقات من الشعر على بحر واحد ولكن كل باقة على قافية
قد تكون مختلفة مع الأخرى ولكن يربطها بالبيت الأخير من كل باقة ليوحد
الباقات الشعرية بها وذلك بتكرار البيت الأخير المختلفة قافيته عن
قافية الباقات الأخرى"، وتركيب بند وهو: "أن الشاعر ينظم على شكل باقات
على بحر واحد وعلى قافية واحدة في الباقة الواحدة ولكنه لا يلتزم أن
تتوحد قوافي الباقات معاً ولكن يتحرر في آخر بيت من كل باقة من قافية
تلك الباقة ولا يوحد بين قوافي الأبيات الأخيرة من الباقات (البنود)
وهذا الرابط يكون بيتاً واحداً ولا يُكرر كما في الترجيعات".
واشتهر في الغزليات الفارسية أو ما يعبر عنه بالغزل العرفاني،
غزليات الشاعر فريد الدين محمد بن إبراهيم العطار النيشابوري (540-
618هـ) الذي وقفت على قبره في زيارة لي لمدينة نيشابور عام 1990م،
وغزليات جلال الدين محمد بن بهاء الدين محمد المولوي (604- 672هـ)
المتوفى في قونيه بتركيا، وغزليات فخر الدين إبراهيم بن بزرگ مهر
الهمداني العراقي (610- 688هـ) المتوفي في دمشق، وغيرهم.
وببيان الغزل كأحد الأغراض الشعرية ينتهي الجزء الثاني من "المدخل
إلى الشعر الفارسي" الذي يمثل في واقعه المدخل إلى الشعر الحسيني في
الأدب الفارسي المنظوم، بلحاظ أن واقعة استشهاد الإمام الحسين(ع):
(تمثل من بين حوادث البشرية الكبيرة نموذجا رائعا للأجيال وعلى مر
التاريخ تتأسى بها البشرية للإنعتاق من الظلم والإستكبار وبقاء مشعل
الحرية مولعاً في مسيرتها) كما يقول بذلك الرئيس السابق لجامعة كابل في
أفغانستان الدكتور أسد الله حبيب، وهو يقدم للكتاب باللغة الفارسية
الدرِّيَّة، وأضاف الأديب الأفغاني المولود عام 1941م في العاصمة
الأفغانية كابل والمقيم حاليا في هامبورغ بألمانيا وهو يعلق على دور
الموسوعة الحسينية في تسليط الأضواء على النظم الفارسي الخاص بالنهضة
الحسينية: (إن الدور العظيم الذي تضطلع به الشخصية الثقافية الجليلة
القدر المتمثلة بآية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي في بيان حقيقة
النهضة الحسينية ينبغي تعظيمها وتمجيدها ليس فقط لتخليدها حركة الإمام
الحسين(ع) وشهادته وإنما للآثار العلمية والأدبية المتمثلة بأكثر من
ستمائة مجلد من دائرة المعارف الحسينية في أبواب معرفية متنوعة والتي
تمثل ثروة عظيمة للبشرية)، وهي حقيقة قائمة تمثلت في 76 مجلداً مطبوعا
وفي أبواب مختلفة.
وفي تقديري أن المدخل إلى الشعر الفارسي يُعدُّ قراءة علمية أدبية
فاحصة في الشعر الفارسي ونشأته وتطوره وكل ما يختص به من قواعد وأسس،
وهو يمثل ثروة أدبية متميزة للناطقين باللغة العربية بقلم عربي متمكن
من الفارسية، بل وإذا تمت ترجمة المدخل إلى اللغة الفارسية فإنه يشكل
هو الآخر قراءة للنظم الفارسي برؤية عربية تجسِّر الروابط الأدبية بين
مدرستي النظم الفارسي والعربي لاسيما وأن اللغة الفارسية يغلب عليها
المفردات العربية بأكثر من خمسين بالمائة مما يتيح لها تشكيل قاعدة
رصينة يقف عليها أدباء المدرستين في إنتاج كل ما هو جديد على طريق رفد
النهضة الأدبية الإنسانية.
* باحث وأكاديمي عراقي مقيم في لندن |