ليس خافيا على أحد بان العراق بعد التغيير وبعد تدمير آلته الحربية
المروعة التي كان وجودها مرعبا للمنطقة كلها بما فيهم الأصدقاء، لم يعد
قادرا على مجابهة أضعف من يناصبونه العداء وأقلهم شأنا بالرغم من كونه
لا يضمر عداء لأحد. ومن المؤكد انه إذا ما أراد العودة إلى نسبة 10%
عما كان عليه قبل التغيير لا أكثر يحتاج إلى عشرات السنين بما في ذلك
تخريج دفعات من الضباط القياديين والإداريين المحنكين لتولي تحريك آلته
العسكرية التي تحتاج هي الأخرى إلى إعادة بناء شامل.
ولكن مع كل ذلك الوهن والنوايا الطيبة التي أبداها العراقيون شعبا
وحكومة، وبعمل اعتراضي استباقي غير مستساغ، وخوفا من أمر يبدو في مصاف
المستحيلات، برزت إلى الوجود ثلاثة أصوات معترضة على مجرد امتلاك
العراق بضع طائرات متخلفة من إنتاج السبعينات يحمي بها أجواءه، ليس لها
قدرة الصمود أمام الترسانات الدفاعية المهولة التي تملكها الأطراف
المعترضة نفسها بما فيها منظومات الصواريخ، وصواريخ الباتريوت وحتى
الأسلحة النووية. ويعني هذا أن العراق برأيهم سواء كان ضعيفا مشتتا أو
قويا موحدا، يحكم دكتاتوريا أو ديمقراطيا، سوف يبقى الخطر الأكبر الذي
يتهدد وجودهم ويقلق راحتهم، بل ويرعبهم ويقض مضاجعهم. فكم أنت كبير
أيها الوطن الغالي لكي يخشاك الأقزام والعمالقة مع ما أنت عليه اليوم!
أول المعترضين على تسليح الجيش العراقي هم الأخوة في دولة الكويت
الشقيق التي عملت المستحيل ودفعت الرشى والهبات السخية لمنع تسليح
القوات العراقية. فقد نقلت صحيفة الشرق الأوسط قول الشيخ جابر المبارك
رئيس مجلس الوزراء الكويتي بالإنابة ووزير الدفاع: "أن الكويت أبلغت
الولايات المتحدة بمخاوفها حول إبرام واشنطن صفقات أسلحة مع بغداد، مما
ينتج عنه اختلال في موازين القوى في المنطقة." مطالبا: "بأن تكون
الأسلحة الأمريكية للعراق في المجال الدفاعي فقط" ومؤكداً أنه: "على
المستوى العسكري المنظور فإن الكويت بعيدة كل البعد عن أي خطر، ولكن
على الصعيد البعيد يمكن أن تكون هناك مخاوف حول هذا التسليح" أي أن
رئيس وزراء الكويت لا يتخوف مثل غيره من وجود السيد المالكي في السلطة،
ولكنه يخاف قادم الأيام وما تخفيه السنين. ومثل قوله الغريب هذا صدر
قول آخر عن مصدر عسكري مسؤول في وزارة الدفاع الكويتية جاء فيه : "إن
الكويت لا تعارض أي صفقة أسلحة للعراق شرط أن تكون دفاعية"
المعترض الثاني هم الأخوة الأكراد ممثلين بشخص السيد مسعود بارزاني
الذي جشم نفسه عناء السفر الطويل للحج إلى البيت الأبيض ليستجدي من
الرئيس الأمريكي (أوباما) الامتناع عن تزويد العراق بطائرات أف 16
محذرا من خطورة حصول الجيش العراقي تحت قيادة المالكي على هذه
الطائرات، ومبديا اعتراضه على بيع الولايات المتحدة لتلك الطائرات
لبغداد ما دام رئيس الوزراء السيد نوري المالكي في السلطة، وذلك خشية
أن يستخدمها ضد الأكراد! محاولا إما العمل على منع وصولها، أو منعه
مؤقتا إلى أن يصبح المالكي خارج السلطة. كما جاء في قوله في المؤتمر
الصحفي الذي عقده بعد عودته من أمريكا.
وأقول صدقا: إن مسعود كان سيبدي الاعتراض نفسه حتى لو كان علاوي أو
صالح المطلك أو غيرهم في رئاسة مجلس الوزراء، فالهدف هو منع تسليح
الجيش العراقي لا أكثر لكي لا يستعيد العراق عافيته ولكي تبقى الكفة
راجحة لصالح القوات الكردية التي تملك الكثير من الأسلحة المتطورة التي
لا يوجد شبيها لها في المنطقة، والتي اعترفوا بأنهم حصلوا عليها بطرق
ملتوية من القوات العراقية بعد الاحتلال، ويراهن بها على كسب الصراع
حول ما يعرف ظلما وعدوانا باسم (المناطق المتنازع عليها).
وكانت إسرائيل ثالث المعترضين ليس من حيث التسلسل الزمني وإنما
العددي لأنها كانت ولا زالت من أوائل المعترضين، وقلدها الآخرون من
أذنابها، لتصبح الحجر الثالث من أثافي قدر المؤامرة التي يريدون بها
حرق العراق على نار ليست هادئة، لمسحه من الوجود وتركيع وتخنيع أهله
الكرام وجعلهم في أدنى درجات المذلة، حيث تسابقت الصحف الإسرائيلية
لتبدي تخوفها من تسليح الجيش العراقي. فقالت صحيفة (جيروزاليم بوست):
"إن موافقة وزارة الحرب الأمريكية (البنتاجون) على تقديم طائرات أف 16
المقاتلة للعراق تثير قلق تل أبيب. وأن (إسرائيل) تشعر بقلق متنام إزاء
البناء العسكري في العراق والتقارير الإستخباراتية التي تتحدث عن أن
الحرس الثوري الإيراني يعزز وجوده هناك، وأن أكثر ما يثير القلق هو بيع
36 طائرة من طراز أف 16 ذات المهارات القتالية المتعددة للعراق.
ثم جاء التحليل الاستراتيجي للشرق الأوسط الذي أجراه الجيش
الإسرائيلي ليعتبر أن امتلاك العراق لهذه الطائرات يخل بميزان القوى،
حيث مع امتلاكها: "يمثل العراق مرة أخرى تهديدا محتملا لإسرائيل."
أما صحيفة (معاريف) فقالت في تعليها على أسباب اعتراضهم على تسليح
الجيش العراقي: "إن هناك الكثير من التباينات والتوجهات بالجيش
العراقي، وهي التوجهات التي تحمل الكثير من العداء والضغينة لإسرائيل،
الأمر الذي يفرض على الحكومة الإسرائيلية الحذر وبشدة من خطورة هذه
الأسلحة ووصولها إلى الجيش العراقي"
من جانبها أشارت صحيفة (يديعوت أحرونوت) إلى: "أن العراق مازال ورغم
سقوط نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين يمثل أزمة ومشكلة لإسرائيل،
خاصة وأن غالبية الشعب مازال حتى الآن يرى في إسرائيل عدو، وأن وصول
هذه الطائرات إلى العراق هو أمر يثير قلق وتوجس إسرائيل بشدة."
فماذا يعني ذلك أكثر من كون هذه الأطراف الثلاثة المتناسقة هدفا
والمتناغمة فكرا وعقيدة ترغب وبشدة في أن يبقى العراق ضعيفا مقسما غير
قادر على الدفاع عن نفسه، وأن لا يتحول إلى مصدر قوة وضغط، أو منافس
شديد قد تؤثر مواقفه على تطلعاتها وأمانيها ورغباتها وأطماعها الشريرة؟
وعجيب كيف أنهم يرون أن العراق سيبقى يشكل خطرا على جيرانه حتى وهو
في أصعب أوقاته، مدعين أن التجارب السابقة خلقت حاجزا نفسيا بين العراق
وشعوب المنطقة، وأن العراق مرشح في أي وقت لإنتاج شخصيات دكتاتورية
ممكن أن تقوده إلى مغامرات من سنخ مغامرات صدام الدموية؟
نحن من جانبنا نرى أن الخوف من العراق يأتي دليلا على جهل وقلة
تقدير أعداءه، وحتى الذين يحبهم ولا يحبونه. والا فالعراق بعد التغيير
يؤمن بالديمقراطية والحوار وقبول الآخر واحترامه ويعمل على تمتين أواصر
السلم العالمي بعيدا عن النزاعات الدموية لكي يتفرغ الشباب والناشئة
لتحصيل العلم وإجادة العمل إسهاما منهم في تقدم بلدهم والعالم، فلماذا
هذا الخوف غير المبرر لو لم تكن وراءه نوايا عدوانية شريرة؟
ونرى أن تلك المواقف الشاذة والعدوانية تفسر في ميزان العقل والمنطق
على أنها نوعا من أنواع الانتقام الذي ينفذه أولئك الذين ذاقوا ويلات
تجارب صدام المريرة جاهلين أو متعمدين تجاهل حقيقة التغيير؟ وهم سواء
كانوا قد تقصدوا الإساءة أو أخطأوا في حساباتهم فبدر منهم ما بدر إنما
يسيئون إلى العراق وأهله الذي عرف عنهم عبر التاريخ أنهم لا يقبلون
الضيم ويرفضون الذل سواء كانوا أحرارا مطلقين أم أسرى مقيدين. |