فلسفة الشيعة في مواجهة الموت!

مهند حبيب السماوي

لم يتعرض مذهب في تاريخ الفكر الاسلامي، وربما العالمي أيضاً، لسوء الفهم والتقدير كالذي تعرّض له التشيع، ولا للتشويه والمصادرة مثلما حدث مع هذا المذهب، كما لم يعانِ اتباع مذهب لشتى انواع الظلم والاضطهاد والقهر خلال التاريخ مثلما عاناه الشيعة الذين اُتُهِموا، من قبل اتباع الحركة الوهابية المتطرفة، بالردة والكفر والخروج على الدين والملة...ولذلك تجدهم استسهلوا اضطهادهم، وحلّلوا دمائهم وتقربوا الى" أمرائهم" بقطع اعناقهم وعلى نحو فاق في بشاعته كل بشاعة في التاريخ!.

وفي المقابل طالما أثار الشيعة، أبّان مايحدث في طقوسهم الدينية وعباداتهم الشعائرية من سلوكيات وتصرفات يقوم بها بعض الزوار البسطاء، الكثير من اللغط والنقد من قبل مثقفي الشيعة انفسهم ممن يرون في هذه الشعائر ومايحدث فيها من تصرفات توصف بـ" اللاعقلانية" خروجاً عن المنطق والعقل، وبدعاً الصقت بالدين الإسلامي عموماً و" المذهب الجعفري الامامي" خصوصاً، وتؤثر على الشيعي والمذهب اعلامياً.

واعترف شخصياً بأنني أحد هؤلاء الذين ينتقدون مايحدث في بعض الزيارات من سلوكيات لاعقلانية بعيدة عن المنطق، وكان لموقفي هذا مبررا معقولاً يتجسد في توجسي من ان ترسم تلك الطقوس صورة خاطئة عن الشيعة وتُرسل رسائل غير صحيحة عن المذهب الجعفري في زمن لم يعد هنالك فيه اي حدود بين الدول والامم، وامست فيه وسائل الاعلام ووسائل الاتصال الاجتماعي قادرة على نقل اي حدث الى كل بقاع العالم بضغطة زر بسيطة وخلال ثانية واحدة.

ولكن، وفي خضم الزيارة الاخيرة الكبرى للشيعة في أربعينيّة الامام الحسين، التي توافد فيها على المرقد آلاف الزوار، طرأ على ذهني تساؤل مُلح حول هذه الشعائر وماتمنحه للشيعي من قوة وقدرة استثنائيتين تجعله ممتلكاً فلسفة خاصة في مواجهة الموت.

هذه الفلسفة لم تأتي من الدراسة الاكاديمية ومطالعة نظريات ارسطو في الوسط الاخلاقي والمدينة الفاضلة لأفلاطون ومنهج سقراط التهكمي التوليدي في الحوار وسوسفطائية بروتوغوراس والمتعة العقلية لابيقور وعدمية نيتشه أو عقلانية كانط أو مثالية هيجل أو تفكيكية دريدا أو بنيوية ليفي شتراوس أو براغماتية وليم جيمس أو ظاهراتية هوسرل...الخ

بل تبنى الشيعي هذه الفلسفة، بشكل عفوي لا ارادي وعلى نحو تلقائي، منبعه حبه الشديد لاهل البيت ومصدره ايمانه المطلق باهل بيت النبوة. والإيمان، كما يقول إدوارد ينج، جسر لعبور خليج الموت، وهو ايمان حقيقي صادق واقعي نابع عن تجارب شعورية واحساس عميق لا ايمان مُزيف او كاذب عماده النظريات وقوامه الكلام والضجيج الفارغ.

فلسفة الشيعة في مواجهة الموت تجعلنا، وتجعل كل محلل موضوعي ومراقب محايد، يغير طريقة تفكيرنا ونظرنا الى الزيارة والشعائر الشيعية التقليدية، وماتمنحه للشيعي من قوة خارقة قادرة على مواجهة اصعب مايمر به الانسان وهو الموت!

ولأننا نؤمن باحد اهم افتراضات البرمجة اللغوية العصبية الذي يقول بأن "الخرائط ليست بالمناطق التي تصوّرها" كما قال "الفريد كورزيبسكي" الذي وضع المبادئ الاولى لعلم دلالات الالفاظ!...فقد كان تساؤلنا واقعا تحت انطباع ماحدث في الزيارة الاخيرة ورأه العالم ايضاً، وهو أمر لايمكن ان نشعر به اذا سمعنا او قرانا عنه فحسب.

بدأت الاسئلة تُطرح وتتقافز في ذهني الواحد تلو الآخر، ولم تترك مجالا للتفكير السريع في الجواب او البحث عن فضاء يمكن ان يفتح امامنا الجواب فورا، وعملية طرح الأسئلة، بالطبع، سواء كانت على نفس الذات أو حتى على الأخر، سوف تؤدي حتماً إلى تفجير إمكانيات عديدة تتعلق بأجوبة وأسئلة جديدة، فــ"من يتعلم طرح الأسئلة لابد أن يصيبه ما أصابني " وهو "أن تُفتح أمامه أفاق جديدة وهائلة وتستحوذ عليه رؤية الاحتمالات الممكنة" كما يقول الفيلسوف الالماني فردريك نيتشه في كتابه " أصل الأخلاق وفصلها".

وماحدث في الزيارة الاخيرة للشيعة كان يحدث في كل زيارة شيعية، بل ولم يتعلق حدثه بالتغيير الذي جرى بعد عام 2003 ومانتج عنه من حرية مَنَحت الشيعة فرصة وحرية مطلقة للقيام بزيارة المراقد الشيعية المقدسة، بل ان الامر يمتد الى مئات السنين حينما كان الشيعة يزورون بل يتقاتلون ويضحون بحياتهم من اجل عقيدتهم التي تقتضي منهم موالاة وزيارة الامام الحسين سبط رسول الله صلى الله عليه واله...فــ" كلنا نموت، ولكن القليل منا من يظفرون بشرف الموت من أجل عقيدة"...كما يقول أنطون سعادة.

التساؤل المهم الذي تفجّر لدي ينوء بثقل الكلمات التالية: كيف ولماذا يصر الشيعة على المضي قدماً في زيارة الامام ومشياً على الاقدام على الرغم مما ينتظرهم من موت محقق على يد الانتحاريين التكفيريين الذين يبحثون عن صيدهم من" فقراء الشيعة" مثلما يبحث ذئب مسعور هائج عن ضحاياه من الشيعة الذين يستحيل لديهم الموت في تلك اللحظات كَمعزوفة الموسيقار الالماني ريتشار واغنر الاخيرة التي اسماها " حب الموت"؟

اي قوة تلك التي يحملها الفرد الشيعي التي تجعله يواجه الموت دون خوف او تردد؟

وكيف يستطيع الشيعي السير في طريق وهو يعلم ان الموت يمكن ان يلاقيه في اي لحظة؟

فالغريب في الامر، وهو المثير ايضاً ويستحق الوقوف على مضمونه وتحليل فحواه والكشف عن دلالاته، هو هذا الاصرار الشديد لهؤلاء الشيعة على الوقوف بوجه الموت بل " تجاوز الخوف منه" على حد تعبير الباحثة اليكس ليكرمان الذي تحدثت، في بعض من دراساتها وبحوثها، عن كيفية تجاوز الخوف من الموت او رعب الموت.

صحيح ان " كل منّا يواجه الموت بطريقته الخاصة" كما تشير الى ذلك اخصائية التحليل النفسي والاجتماعي سوزان بيري، لكن الشيعة لديهم طريقا اكثر خصوصية" من غيرهم" في مواجهتم للموت وفي استحسانهم له وعدم خوفهم منه بل انهم، وفي فلسفة مواجهتهم للموت، يجيبون بالنفي القاطع على سؤال الفيلسوف ثوماس ناجل... هل الموت شر؟ فلم يغدو الموت هنا شراً ولا سوء عاقبة ولانهاية تعيسة...بل تجد هؤلاء يفتخرون ويقدمون ارواحهم قربانا وتضحية من اجل زيارة هذه المراقد التي لها قيمة اثيرية لديهم وفي مخزون معتقداتهم.. وعاطفتهم النبيلة التي هي نموذج لعاطفة عظيمة يكون الموت فيها هو " النهاية الجميلة النقية الوحيدة لها" على حد تعبير ديفيد هربرت لورانس.

ولذا اصبح الشيعة مثالا ونموذجا ناصعا لما بيّنه المحلل النفسي الوجودي ايرفين يالوم في كتابه " النظر نحو الشمس..تجاوز رعب الموت " الذي أوضح بانه من اجل تحقيق غاية تجاوز الخوف من الموت فيجب عن الناس التوقف عن تجنبه، وهو ماينطبق على الشيعة تماما، أذ ان الشيعة وفي اصرارهم على المضي قدما في طريقهم الى الحسين، رغما عن التفجيرات التي تحدث فيه، فانهم يُظهرون مقدرة غير اعتيادية على مواجهة الموت، فتتبلور لديهم فلسفة جديدة لمواجهة الموت قائمة على الحرية الحقيقة في اختيارهم لقراراتهم وتحدي الخوف من الموت، والاخير، كما هو معروف لدى جان بول سارتر، يُمسي في احيان كثيرة كاشفا عن الحرية!.

والحديث عن الموت عموما بابعاده المختلفة ومدياته المتنوعة واشاراته المتعددة حافل بالكثير من الرؤى والافكار والتجارب، وهو موضوع علم يسمى Thanatology الذي يبحث بصورة علمية عن الموت، وفيه نُدرك أن معرفة حقيقة الموت قد شغلت الكثير من الباحثين والعلماء والفلاسفة، فالانسان هو الحيوان الوحيد الذي يدرك تماما انه سيموت، على حد قول فولتير...ويشير روبن فوكس، وهو بروفسور النظرية الاجتماعية في جامعة ريتغير الامريكية الى " عالمية الموت " لكنه يجد ان التقاليد والاعراف التي تتضمنه تختلف بين الشرق والغرب، واعتقد برايي ان الامر لايختلف فقط بين الشرق والغرب، بل في داخل الشرق نفسه والغرب نفسه، فما يفعله الشيعة ومايُظهروه من فلسفة حقيقية تجاهه يُعد أمرا فريدا ولايوجد نظيره في المذاهب الاسلامية ويستحق ان نوليه الاهتمام والدراسة والمتابعة استقرائياً.

ان معرفة فلسفة الشيعي في مواجهة الموت تُحتم علينا معرفة جملة العوامل الدينية والنفسية والاجتماعية والتربوية التي تحيط بعالم الفرد الشيعي الداخلي اولاً وفي بيئته الخارجية ثانياً، فعالم الفرد الشيعي الداخلي الذي تشكل عبر تربيته من سنين عديدة ساهم في تشكيل رؤية له حول اهل البيت وحب الامام الحسين تجعله مستعداً للموت من اجلهم كانما هو نوع من الندم على عدم وجوده مع الامام في معركة الطف حينما تم الغدر به وكان ليس معه الكثير من الانصار والاتباع.

فاستعداد الشيعي الحقيقي للتضحية بحياته من اجل رؤية او زيارة الحسين تنبع من هذا الاحساس والشعور الذي يختلج في صدر كل شيعي حينما يسمع قصة مقتل الامام التي تغمره الماً وحزناً وهي التي لعبت، على الرغم من الاساطير والمبالغات والتصوير الشعري الذي يتخللها، دورا كبيرا في تشكيل رؤية الفرد الشيعي، بل وحتى شخصيته حول الكثير من الامور ومنها الموت، ولذلك تراه الشيعي يصرخ ويبكي قائلا وهو يخاطب اهل بيت النبوة " ياليتنا كنا معكم".

وفي ظل هذه الرؤية الشيعية للموت، لانجد صعوبة في الكشف عن وجود علاقة جدلية بين الموت والحياة فــ"اعتقاداتنا حول الموت تؤثر بشكل كبير على حياتنا " وفقا لميل سشوراتز، وكذلك العكس فمنظورك لهذه الحياة وكيفية رؤيتك لها يُحدد منطلقات افكارك وممارساتك ومواجهتك للموت، وقد ابان ذلك على نحو جلي الباحث ناثلان بافلك في مقاله " ستيف جوبز...استعمال الموت من اجل الحياة" واشار فيه الى كيفية استعمال الموت من اجل الحياة وفيه استشهد باقوال جميلة ورائعة لمؤسس شركة ابل الامريكية المُبدع ستيف جوبز التي يقول فيها بان " تذكيرك لنفسك بانك ستموت هو افضل طريق اعرفها لتجنب خدعة التفكير بان لدي شيئا اخسره" و" تذكير نفسك بانك ستموت قريبا هي اهم اداة واجهتها ساعدتني لاختيار قرارات وخيارات كبيرة في الحياة ".

وفي الطريق المؤدي الى الامام الحسين تذكير واضح بالموت لدى الشيعة ولكنهم، اي الشيعة، ازاء هذه الاشارات والمعالم لايهربون او ينتسكون ويرتدون على اعقابهم القهقرى خوفا من الموت او من ارهابي " ضال "، بل يمضون، وبعزيمة اكبر وارادة اقوى، نحو الطريق المؤدي الى مرقد الامام غير آبهين ولامتخوفين من خطر الموت الذي يستحيل الى طقس احتفالي لديهم على حد تعبير يوكيو ميشيما.

هذا الاستعداد للموت، ووفقا للفلسفة التي يحملها الفرد الشيعي، تنتقل نفسيا، في بعض الاحيان، الى الاخر وعلى نحو تلقائي يجهل الكثير مصدره الحقيقي، فترى من يشاهد هذه الجموع الشيعية وهي تتحدى الموت ولاتتهيّب لقائه، يهون لديه الموت أيضاً ولايخاف منه، بل يستعد للتضحية بنفسه ايضاً، وفي العراق امثل عديدة لما جرى في الزيارات، اذ قام ضابط " سني" المذهب "كركوكي" المحافظة يدعى نزهان الجبوري وزميل له وعلي المقدمي" من محافظة ديالى"، في الزيارات الاخيرة لاربعينية الامام، بالتضحية بنفسيهما وذلك بعد ان منع انتحاري من تفجير نفسه وسط حشود الزائرين، وعانقاه وحالا دون ان ينفذ الارهابي مجزرة كبيرة، فقدّم نموذجا "وطنيا" "فريدا" من نوعه لمواجهة الموت وتحديه ومعانقته كما تعانق الام طفلها بعد فراق طويل!.

كل هذا حدث من فيض وحي ونسمات الفلسفة الشيعية لمواجهة الموت وهي تستقي روحها وابعادها الميتافيزيقية من تضحية الامام الحسين وشهادته الكبرى ووقوفه بوجه جيوش الظلم والاستبداد والفساد مع ادراكه ان حربه خاسرة على أرض المعركة تكتيكياً، لكنها لم تكن كذلك على نحو بعدها الاستراتيجي، الوجودي، الافقي، العمودي، العالمي، الكوني، القيمي، الروحي، المعنوي، النفسي، والاخلاقي!

ان استمرار الشيعة في طريقهم نحو زيارة الحسين، وفي وجود المخاطر المحيطة بهم، يكشف عن مدى قوة الشيعة النفسية والايمانية التي جعلت من كل فرد منهم يواجه الموت بلا خوف ولا وجل، بل حتى حينما يحدث الانفجار الارهابي وتتناثر جثث الابرياء، فانه يكشف لنا، وعلى الرغم من الحزن على الضحية فيه وبشاعة هول جريمة الجاني التي يتأتى للرائي للوهلة الاولى، عن جمال من نوع خاص وفلسفة فريدة من نوعها ذكرتني بما قاله رالف والدو اميرسون حينما زار قبر زوجته آلين بعد وفاتها بعام واحد، حيث كتب بعد ذلك كلمته المعروفة " حتى الجثث لها جمالها الخاص"!.

ولفلسفة الشيعة في مواجهة الموت.... جمال مطلق مابعده جمال! و" ميتا" فلسفة مابعدها فلسفة!.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 7/آيار/2012 - 15/جمادى الآخر/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م