بين الفينة والأخرى يقوم أولادنا بحركات عفوية أو مقصودة تذكرنا
بسالف الأيام وفعالنا مع آبائنا الموزونة والمنفلتة، وفي بعض الأحيان
نقدم على أفعال يعترض عليها الأبناء، فنأخذهم بالحسنى وربما قلنا لهم
لا تثريب عليكم اليوم ولكن ستتذكروننا عندما تقعون مع أولادكم في
الموقف نفسه وتتخذون الإجراء نفسه أو أشد، ربما لا يدرك الأبناء قول
الآباء، ولكنها سنة الحياة وأن اختلفت الأزمان، فالتعامل بين الأبناء
والأولاد لها مسلّمات بديهة غير خاضعة للتغيير بتبدل العصور والأزمان،
فلا يصبح زينها شيناً ولا شينها زيناً، وإنما هو سلوك مجبول عليه
الإنسان منذ الخليقة، وفطرة إنسانية يشترك فيها كل أبناء البشر بقطع
النظر عن الجنس والبلد واللغة والدين، وهو تعامل متبادل لا يخضع
للثقافة والتعلم، فالمتعلم يدرك حجم العلاقة بين الأب والإبن وبالعكس،
وكذا غير المتعلم، فالذي يعيش في حضارة أو مدنية متقدمة محكوم بعلاقات
مع الآخر كأب أو إبن هي نفسها لدى الذي يعيش في مجاهل أفريقيا أو
أمريكا اللاتينية، لأن الإنسان بإنسانيته وهي لا تتجزأ ولا تخضع
لمقاييس الحضارة والثقافة.
ولا يعني هذا أن العلاقات لا تتأثر بعوامل الزمن وتطور وسائل
المواصلات والإتصالات التي أبدلت وعلى سبيل المثال الزيارات المنزلية
إلى مكالمات هاتفية، والجلوس الأسري على مائدة منزلية إلى طاولات
المطاعم والأكلات السريعة، وإذا اعتبر البعض تطور وسائل الاتصالات خطرا
على الدفء الأسري، فإن تطور وسائل المواصلات قرّبت البعيد، كما أن
وسائل الاتصالات أوجدت دائرة اتصال مباشر بين الوالدين والأبناء على
بعد المسافات، وصارت الرسائل المكتوبة والاتصالات الهاتفية وأمثالها
أشبه بالقديم نظراً للوسائل المتطورة والمباشرة، ومع كل هذا الزخم
العلمي فإن العلاقات الأسرية لازالت تحتفظ بقدسيتها وهيبتها لأنها
بالأساس علاقة كينونية متجذِّرة تحكم الإنسان بالآخر كأب أو إبن، كما
هي العبادة علاقة قائمة بين العبد والمعبود لا تتأثر سلباً بتطور
العلوم ووسائل الإتصال والمواصلات حيث بقيت الصلاة كما هي وبقي الحج
كما هو وبقي الصيام كما هو، ولذلك فلا غرو أن يربط القرآن الكريم
العبادة بالوالدين، ويربط قبول العبادة بحسن التعامل مع الوالدين، فمن
أساء لوالديه لا تنفعه عبادته، بل إنَّ العبادة الحقيقية تأتي من
الإحسان إلى الوالدين، فمن أساء العلاقة بالوالدين وهو يقيم الفرائض
ويزيد عليها بالنوافل فليتوقف قليلاً ويفكر فيما هو فيه وليستحضر أربع
آيات في القرآن الكريم تقرن الإحسان إلى الوالدين بعبادة خالق الإبن
والوالدين، في سورة البقرة الآية: 82، وسورة الإسراء الآية: 23، وسورة
النساء الآية: 36، وسورة الأنعام الآية: 151، ولعلّ أظهر الآيات الأربع
قوله تعالى من سورة الإسراء: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ
إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ
الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا
تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً. وَاخْفِضْ لَهُمَا
جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا
رَبَّيَانِي صَغِيراً) الآية: 23 و24، ويلاحظ هنا أن الله تبارك الله
استخدم مفردة "قضى" ذات المعنى البليغ، وفي تقدير الفقيه الشيخ حسن رضا
الغديري وهو يقدم لكتاب "شريعة الوالدين" للفقيه الشيخ محمد صادق بن
محمد الكرباسي الصادر حديثا (1433هـ - 2012م) عن بيت العلم للنابهين
بيروت في 64 صفحة، أن القرآن الكريم: (لم يقل "قدّر ربك" أو "أمر ربك"
بل استخدم كلمة القضاء، ولعلّ السر فيه أن التقدير والأمر ونحوهما من
التعابير الكلامية المحكمة والحاكية عن مولوية المتكلم القدير ولكنه
استخدم القضاء هنا ليعطي معنى الحتمية والأبدية غير القابلة للتغيير)،
وهذه الحتمية متماهية تماماً مع حتمية أصل العبادة في الخلق: (وَمَا
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) سورة الذاريات: 56.
صنوان لا يتقاطعان
وإلى جانب هذه الآيات الأربع فهناك آية واحدة تعبر عن بر الوالدين
كما جاء على لسان النبي يحيى (سورة مريم: 14)، وثلاث آيات يوصي الله
سبحانه وتعالى الأولاد بالوالدين (سورة العنكبوت: 8، سورة لقمان: 14،
وسورة الأحقاف: 15)، وآيتان تنهيان عن الإساءة إلى الوالدين (الاسراء:
23-24، والأحقاف: 17)، ومجمل القول أن لفظة الوالدين يُراد بها الأب
والأم معاً، ووجد الفقيه الكرباسي أن مولدات الوالدين جاءت في عشرين
موضعاً من القرآن الكريم: (ثلاث مرفوعة وسبع مجرورة وجاءت واحدة بعنوان
والدَيْكَ، وخمس بعنوان والدَيْه، وأربع بعنوان والدتي، مضافاً إلى
ضمير الخطاب والغائب والمتكلم، واستُخدم مذكَّراً ثلاث مرات ومؤنثاً
مفرداً ثلاث مرات أيضاً وجمعاً مرة واحدة، وما يرتبط بموضوعنا – شريعة
الوالدين- أربع عشرة آية).
ويحكي اهتمام القرآن الكريم بالوالدين عن الأهمية القصوى في بناء
العلاقات المجتمعية السليمة وتأثيرها المباشر على الأمة ومسيرتها بين
الأمم، ولعِظم الإحسان إلى الوالدين فإن الوحي المنزل قرنه بخلوص
العبادة ولفظ الشرك، وبتعبير الفقيه الغديري وهو يستظهر علة المقارنة:
(إن العبادة من الأمور الثابتة لله تعالى أي أنها حقٌّ من حقوقه وكذلك
الإحسان بالوالدين فهي من الأمور الثابتة لهما أي من حقهما، ولقد أوجب
الله تعالى على الأولاد أن يؤدوها عيناً كما أوجب على العباد أن يؤدّوا
حقه أي العبادة..)، ولأن الجنة لا يدخلها تارك الصلاة فإنَّ الذي يسيء
الأدب في ساحة الوالدين ويغضبهما ويترك الدمعة عالقة في أجفانهما يُحرم
من ريحها، وقد حذّر رسول الرحمة الإنسانية محمد(ص) أولئك الذين يعقون
الوالدين بقوله: (إيّاكم وعقوق الوالدين فإن ريح الجنة توجد من مسيرة
ألف عام ولا يجدها عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان ولا جار إزاره خيلاء
إنما الكبرياء لله رب العالمين).
فللوالدين حقوق في رقبة الأبناء كما هي في رقبة الوالدين، وضعها آية
الله الكرباسي في 75 حكماً مع 61 تعليقاً لآية الله الغديري، وكلها
تنحصر في مفردة الإحسان وطلب رضاهما فضلا عن عدم الإضرار بهما، كما إنَّ
الوالدين في المفهوم الإسلامي لا ينحصر بالأم والأب المباشرين فهو عام
يشمل (الأجداد والجدات من الطرفين الأب والأم فأب الأب وأمه وأب الأم
وأمها هما من الأجداد والجدات وجميعهم كانوا ممن ولدوا الآباء والأمهات).
ولا ينصرفنَّ الذهن إلى أن اقتران عبادة الرب بالإحسان إلى
المربوبين من الوالدين قاعدة ليست أبدية وأن عراها تنفصم إذا كان أحد
الوالدين أو كلاهما شطَّ عن الدين والملة، من هنا يرى الفقيه الكرباسي
أنه: (إذا كان أحد الوالدين خارجَين عن الملّة فلا تسقط واجبات الأولاد
تجاههما)، كما أن: (على الأولاد زيارة الوالدين حتى وإن بقيا على الكفر،
إلا إذا رفضا استقبالهم).
صفحات مطوية
بيد أنَّ الإحسان إلى الوالدين ليس كتاباً مفتوحاً على آخره، فهناك
صفحات على الولد (ذكراً أو أنثى) طيها وعدم الوقوف عندها من قبيل: (إذا
كان طلب الوالدين غير مشروع، فلا يجوز الإستجابة، كما لو طلبا شراء
الخمر لهما) كما: (إذا طلب أحد الوالدين ترك بعض الواجبات من الأولاد،
كأن يطلب أحدهما أن تخلع البنت حجابها، أو أن يحلق الإبن لحيته، لا
يجوز اتِّباعهما وتلبية طلبهما)، وقد تذهب العاطفة أو الغضب بالوالدين
أو أحدهما للضغط على الإبن أو البنت بما فيه خراب البيت مثل أن: (يطلب
أحد الوالدين أو كلاهما من الإبن طلاق زوجته لعدم ارتياحهما من الكنَّة،
فلا يصح أن يقوم الإبن بإطاعة الوالدين بحجة أن طاعة الوالدين واجبة
وأنهما يعقانه إن لم يطلق زوجته).
ومن الأمور الباعثة على غضب السماء حظر الأبناء دون تجديد الحياة
الزوجية لأحد الوالدين: (فلو أنّ الإبن قام بمنع والدته من الزواج بعد
وفاة أبيه وهي راغبة في ذلك فإن ذلك يؤذيها بالطبع فهذا لا شك بحرمته)،
وفي اعتقادي أن من الإحسان الى الوالدين هو السعي لتزويج أحدهما إذا
فقد القرين لسبب أو لآخر، لأن الأب إذا فقد زوجته فإن الأبناء أو
الكنَّة لا يشكلون بديلاً عن الوحدة التي يعيشها، فهو بحاجة إلى من
يأنس إليها إلا إذا ارتضى لنفسه الوحدة، والأمر ينسحب على الأم أيضا
وإن كانت الأخيرة كما دلت التجارب أكثر صبراً وأحرص على البقاء أرملة
لرعاية الأبناء والأحفاد، إلا أن الأرملة بوجود الأبناء تعتصم بالصمت
في كثير من الأحيان ولا تفصح عن رغبتها، فينبغي فيما أرى من واقع
التجربة الحياتية أن على الأبناء أن يمهدوا السبيل لزواج الأب الأرمل
أو المطلق وكذا الأم الأرملة أو المطلقة، وأن لا يقفوا حجر عثرة أمام
سنّة الحياة في تجديد فراش الزوجية ما بلغ عمر الزوجين مبلغا.
ولا يخفى أن الكثير من المشاكل التي تقطع حبل الوصال بين الوالدين
والأبناء المتزوجين منشؤها العلاقة المتأزمة بين الأم والكنَّة (زوجة
الإبن) والشدّ والجذب بين الأم والزوجة على الإستئثار بسيء الحظ، حتى
جرت مثلا (لو العمّة تحب الكنَّة كان إبليس دخل الجنّة) وهنا يقع الزوج
(الإبن) بين نارين، بين إطاعة الأم كلازمة للإحسان إلى الوالدين وإرضاء
الزوجة كلازمة للحياة الزوجية واستمرارها وتكوين أسرة جديدة، وأعقل
الأزواج من وازن بين الحقّين شريطة أن لا يكون على حساب خراب البيوت،
لأنه ابتداءاً كما يذهب الكرباسي: (لا يجب على الكنَّة القيام بمهام
والدَيَ الزوج، وإن فعلت فإن لها أجراً كبيراً)، ومقتضى الأمر: (إذا
كان عدم رضا الوالدين على الأولاد يكمن في أنَّ الكنَّة لا تطيعهما،
فلا عبرة بذلك لأنها غير مأمورة شرعاً بإطاعتهما)، وفي المقابل: (لا
يحق للزوجة منع زوجها من زيارة والديه كما لا يحق للوالدين منع الإبن
من ممارسة الحقوق المفروضة عليه تجاه زوجته وأولادها)، وبالنسبة للزوجة
هي الأخرى عليها مراعاة التوازن في متطلبات بيت الزوجية وإطاعة
والدَيْها، فعلى سبيل المثال: (إذا فرض أحد الوالدين بعض الأمور على
بنتهما بما ينافي حقوق زوجها، فلا يجوز لها إطاعتهما في ذلك)، وذلك
لبيت الزوجية خصوصية تتمثل فيها حقوق الزوج وحقوق الأبناء وبناء أسرة
جديدة، كما أنه بالإمكان إرضاء الوالدين بالحسنى، لكن أن يترك الباب
مفتوحا أمام رياح المشاكل حتى تنخر أرَضَتُها ببيت الزوجية إنما هو
سلوك غير موزون يمثل معضلاً كبيراً في الحياة الإجتماعية يحمل معه
معاول الطلاق، كما ينبغي على الوالدين أن لا تأخذهما العزة بالأبوَّة
فيبتعدا كثيراً عن جادة الصواب فيكونان كلاهما أو أحدهما مدعاة لخراب
بيت الزوجية للإبن أو البنت، فسعادة الإبن في بيته والبنت في بيتها بين
زوجها وأبنائها من أكبر السعادات وهي تنشر بعطرها في أجواء المجتمع
كله، لأن المجتمع السليم هو مجموع الأسر السليمة، ونشأة الأحفاد في
أجواء نظيفة هو مكسب كبير للوالدين والأجداد والجدات، ومكسب للمجتمع.
بالتأكيد ليست في الحياة الأسرية والإجتماعية مدينة فاضلة معصومة من
الخطأ والزلل، ولا يخلو منزل من مشاكل، ولذلك قالوا (البيوت أسرار)،
والإنسان بطبعه البشري الأرضي يكابد في الحياة الدنيا وهو معلقٌ بين
الخوف والرجاء، بين الأمل والألم، بين الفرح والترح، بين تلبية رغبات
النفس وتحقيق واجبات الأسرة، والخير كل الخير في خلق التوازن الأسري
بين دفء الوالدين وعش الزوجية، وهي معادلة تبدو صعبة المنال ولكنها
ليست بالمستحيلة، والتعرف على شريعة الوالدين وأحكامها أوّل العتبة في
سلّم التعامل الأسري السليم.
* الرأي الآخر للدراسات- لندن |