شبكة النبأ: لم أكن أعتقد قط ان حربا
ستنشب في سراييفو حتى رأيتها تتأجج من نافذتي أمام عيني. بالنسبة لي
بدأت الحرب في الخامس من ابريل نيسان 1992 حين استيقظت على دوي طلقات
الرصاص. رأيت ملثمين في الشوارع يشهرون أسلحتهم ويطلقون الرصاص في
الهواء بشكل عشوائي ويأمرون جيراني بالعودة لبيوتهم.
كنت في الثامنة والعشرين من عمري بوسنية مسلمة أعيش مع والدي وشقيقي
في حي جربافيتشا بشارع ليوبليانسكا الذي يمتد من نهر ميلياكا الى طريق
يحيط بالمدينة.
وكان حي جربافيتشا يمثل خط المواجهة فهو حي مختلط الاعراق سيقوم صرب
البوسنة بالسيطرة عليه لتقسم العاصمة في بداية حصار يستمر 43 شهرا.
وفرقت هذه الخطوة شمل أسرتي لمدة عام. وقبل شهر مما سيحدث رأينا تجربة
نهائية له حين وافق مسلمون وكروات بأغلبية ساحقة في استفتاء على
استقلال البوسنة عن يوغوسلافيا الاشتراكية.
وقاطع الصرب الاقتراع واقاموا متاريس اسفل جسر ليوبليانسكا على
النهر وعزلوا جربافيتشا عن بقية المدينة ثم انسحبوا بشكل مؤقت.
وجربافيتشا حي مختلط يعيش فيه الصرب والكروات والمسلمون وبينهم عدد من
الضباط في الجيش اليوغوسلافي الذي يهيمن عليه الصرب في بلد كانت تتفكك
اوصاله. بحسب رويترز.
لم يدر بخلدنا ان التوتر الذي كان يتصاعد سينتهي بحرب - ليس في
سراييفو وحدها وهي المدينة التي احبها لتاريخها المتعدد الثقافات
وتنوعها ودفء سكانها. لم يكن السؤال عن العرق مطروحا. ولكنه اضحى في
النهاية المحرك الرئيسي للانقسام.
في الخامس من ابريل نيسان اختفى المسلحون وخلت الشوارع من المارة
وأفادت تقارير صحفية بان الصرب اقاموا متاريس عند الجسر مرة اخرى وان
محتجين سلميين يتجهون صوبهم. وسمعت اصوات متقطعة لطلقات بنادق آلية.
وأمسكت بمنظار صغير يستخدم في مسارح قاعات الاوبرا ونظرت من بين
الستائر لارى مسلحين يضعان الشارة البيضاء للميليشيات الصربية يجريان
وغابا عن الانظار داخل حديقة فيلا أمام منزلي.
وبعد دقائق وافتنا تقارير تلفزيونية بمقتل امراتين كانتا بين
المحتجين بالرصاص عند الجسر على بعد مئة متر من حيث اقف. تملكني الخوف
وحتى يومنا هذا اعتقد ان الرجلين اللذين شاهدتهما هما الجناة.
توقفت شاحنة صغيرة تحمل شارة الجيش اليوغوسلافي وهللنا فرحين
معتقدين ان الجنود جاءوا لمساعدتنا. ولكن بعد ساعات اتصلت امي بجارة
ابلغتها "أفرغت (السيارة) أسلحة وذخائر واعطتها للصرب." ودارت رحى
الحرب.
اقترب دوي اطلاق النار واحتمينا داخل المنزل. وجلس شقيقي الذي اتم
عامه السابع والعشرين قبل أيام في غرفته يتابع التلفزيون الذي توقف
فجأة عن العمل بعد ان اصابته رصاصة كان يمكن ان تقتل اخي بكل سهولة.
وفررنا لمنزل أحد الجيران بعيدا عن الشارع الرئيسي واتذكر مشهد أبي
وهو يدفع امامه خزانة ملابس لسد الباب الامامي.
وفي الاذاعة نفى ميلوتين كوكانياتش من الجيش اليوغوسلافي ان الجيش
متورط في اطلاق النار فاتصلت بالاذاعة لتعرف المدينة ما جري في الشارع
الذي اقطنه. وسأل المذيع كوكانياتش عن رده فقال "لا توجد قوات من الجيش
اليوغوسلافي في ليوبليانسكا".وانتابني فجأة شعور بالضياع وقضينا ليلتنا
ونحن نترقب الأسوأ.
ويعتبر اليوم التالي السادس من ابريل البداية الرسمية للحرب وحين
عدنا الى منزلنا اكتشفنا تحطم النوافذ ووجدنا الزجاج وقد تناثر في كل
مكان.
قررنا الانضمام لاحتجاج سلمي امام البرلمان يجمع بين سكان سراييفو
من الصرب والكروات والمسلمين للدعوة لاعمال العقل. ومع اقترابنا قابلنا
اشخاصا يركضون عائدين. وصرخ احدهم "يطلقون النار على المحتجين من
هوليداي ان" في اشارة للفندق الموجود قبالة مبنى البرلمان. فركضنا
عائدين لمنزلنا.
واذكر انني رأيت جارا ثملا يمشي مترنحا وهو يلوح بمسدس ويصرخ متحديا
القوميين الصرب. دوت أصوات اطلاق الرصاص ثم ران السكون وحين نظرت من
النافذة في وقت لاحق رأيت بقعة دماء على الارض حيث كان الرجل يقف. كان
مسلما والشخص الوحيد الذي جرؤ على مساعدته صربي نقله عبر المتاريس
للمستشفى. وقتل الاثنان في غمار الحرب.
في السابع من ابريل تسللت وشقيقي بين المنازل وعبر الافنية الخلفية
وصولا للجسر التالي عبر نهر ميلياكا وسعدنا حين تمكنا من بلوغ قطاع اخر
في المدينة كنت قد عملت به في معهد تابع للدولة قبل ان تنشب الحرب.
ومكث والدانا في الحي ورأيناهم مرات معدودة اخرى خلال الاشهر
التالية الى ان عزل حي جربافيتشا كلية عن بقية سراييفو في مايو ايار.
وعاش والداي على ثمار البرقوق من الحدائق في شارعنا ثم المعونات
والغذاء الذي اقتسمه معهما جيراننا من الصرب. لم يسمح لهما بالتسوق في
سوق جربافيتشا.
ولم أر والداي مرة اخرى الا بعد عام في اعقاب أشهر من المفاوضات
الشاقة مع اربعة اطراف تسيطر على المدينة هي القوات الصربية والجيش
البوسني والكروات وقوة شرطة خاصة في البوسنة. وسمح لهما بمغادرة الحي
مقابل خروج صربيين ارادا الهروب من سراييفو. تتبعت الصربيين بنفسي وكنت
قد اقترحت هذه المقايضة.
وعبر والداي الجسر في 13 مايو ايار 1993 ولم استطع التعرف على
والدتي بعدما فقدت 25 كيلوجراما من وزنها وبدأ الشيب يدب في شعرها. ولم
تبتسم الا بعد ثلاثة ايام بعدما ذهبت لمصفف الشعر.
واستمرت الحرب عامين ونصف العام بعد ذلك استخدمت خلالها القوات
الصربية مدفعية الجيش اليوغوسلافي وسيطرت على مساحات شاسعة في البوسنة.
وقاتل المسلمون والكروات ضد الصرب وضد بعضهما بعضا.
وسقط نحو 100 ألف قتيل في الحرب من بينهم أكثر من 11 الفا من سكان
سراييفو سواء برصاص قناصة او جراء قصف من فوق قمم الجبال التي تحيط
بالمدينة. وأضحت سراييفو التي كنت أعرفها في شبابي مجرد اسطورة غابرة
بالنسبة لمحبيها. ورممت المباني لكن المدينة تغيرت واشعر احيانا
بالغربة فيها. لكنني أدرك ان مدنا مثل سراييفو تحمل روحا صامدة وستعود
سيرتها الاولى مرة اخرى.. حين نتصالح مع ماضينا. |