فشل تسوية الاتفاقيات ونجاح تسوية الأمر الواقع

د. إبراهيم أبراش

صيرورة السياسة علما لا يعني أن الحياة السياسية باتت محكومة بقوانين ونظريات أو بمعاهدات واتفاقات دولية واضحة ودقيقة، فكثير من الظواهر والسيرورات في الحياة الاجتماعية والسياسية موجودة ومستمرة بحكم الواقع والقوة وليس بفعل اتفاقات ومعاهدات أو بمقتضى القانون والشرعية الدولة.

علم السياسة كالواقع السياسي يقولان إن من يملك القوة ويوظفها بطريقة عقلانية يمكنه حتى توظيف وتجيير القوانين والمعاهدات وحتى الشرعية الدولية لصالحه، أما الضعيف داخليا فسيعيش على هامش التاريخ ولن يستطيع حتى توظيف ما تتيحه له القوانين والشرعية الدولية من حقوق.

في كثير من الحالات يكون الواقع المفروض بالقوة وموازينها أكثر حضورا وتأثيرا في مجريات الحياة السياسية من كل محاولات الضبط والقوننة والتحكم التي يلجأ إليها البشر من خلال القوانين الداخلية والدولية أو من خلال الاتفاقات والمعاهدات.

ومن هنا يولي علماء ورجال السياسة اليوم أهمية عظمى للسياسة الواقعية التي تقوم على القوة وموازين القوى والمصلحة أكثر مما تقوم على القوانين والمعاهدات والأخلاق.

القوانين والمعاهدات بكل أشكالهما: داخلية أو دولية، سياسية أو اقتصادية أو عسكرية، في أوقات السلم أو الحرب الخ، لا تتحكم أو تشمل سوى جزءا من الحياة السياسية. الجزء الأكبر من الحياة السياسية داخل الدولة الواحدة أو ما بين الدول تحكمها وتسيرها المصالح والقوة وموازينها. الضعفاء فقط هم الذين ينتظرون أن تنصفهم القوانين والشرعية الدولية أو ينتظرون قوى خفية أو عليا تنقذهم مما هم فيه.

هذا لا يعني أن الحياة السياسية محكومة بشريعة الغابة، ولكن مرامنا التأكيد بأن النخب السياسية التي تراهن فقط على القوانين والمعاهدات والشرعية الدولية أو على القدرية السياسية دون تعبئة وحشد مصادر قوة الشعب، النخب التي تفتقر لإستراتيجية الحفاظ على الذات، سيؤول أمرها في النهاية عبيدا لمن يملك القوة ويتحكم بالواقع وسيجدون أنفسهم يجلسون على أنقاض وطن معتقدين أنهم يتمسكون بالثوابت والحقوق الوطنية ومتوهمين أن مجرد وجودهم واستمرارهم في السلطة انتصار بحد ذاته.

هذا المدخل النظري ضروري لمقاربة الحالة السياسية الموسومة بالصراع العربي الإسرائيلي وخصوصا مسألة التسوية السياسية. النخب السياسية الفلسطينية والعربية ومعها قطاع كبير من الشعب المنشغلون بفشل الاتفاقات الموقعة، وعجز الشرعية الدولية، ووقف المقاومة تحت عنوان التهدئة، واستمرار الانقسام، وغياب البعد القومي، وتيه البعد الإسلامي، الخ، هذه النخب تعتقد أن الحالة السياسية أو الصراع مع إسرائيل متوقف أو يعيش حالة فراغ وبالتالي فالانتظار أو المراهنة على الآتي من الأيام سيأتي تلقائيا بالحل الذي يريدونه. وعليه نلاحظ حالة من القدرية أو الأنتظارية السياسية: انتظار المنقذ الإسلامي من خلال (الثورات العربية) أو المنقذ الأممي من خلال سياسة جديدة للرباعية، أو انتظار إدارة أمريكية جديدة أو حكومة إسرائيلية جديدة، دون تفكير جاد في البحث عن معادل موضوعي للخصم من خلال البحث عن القوة الذاتية، حتى على مستوى الحفاظ على الذات كثقافة وهوية وضمير جمعي، لا توجد إستراتيجية فلسطينية في هذا المجال.

إذن في الوقت الذي تنشغل فيه النخب الفلسطينية وتُشغل معها الشعب بصراع عقيم حول السلطة والحكومة والمصالحة وبالحديث عن فشل الاتفاقات الموقعة والجري وراء قرارات دولية جديدة وتسوية جديدة وكأن مصير الشعب الفلسطيني الذي عمره أكثر من أربعة آلاف سنه وقوامه أكثر من 11 مليون نسمة بات معلقا على قرار دولي أو اتفاقية دولية...، في هذا الوقت تقوم إسرائيل بفرض تسوية الأمر الواقع بقوتها ودهائها، تسوية غير معلن عنها ولكنها تترسخ يوما بعد يوم، تسوية يشارك فيها عرب أطراف دولية وفلسطينيون، بجهل وغباء من البعض وبتواطؤ من آخرين. إنها التسوية التي دشنها شارون قي سبتمبر 2005 عندما انسحب من طرف واحد بدون اتفاقات أو معاهدات وبعيدا عن الشرعية الدولية وقراراتها وبدون ان ينهزم بحرب.

 إنها تسوية كيان غزة تحت حكم حماس بموافقة ورضى إسرائيل وأطراف إقليمية ودولية، يقابله في الضفة والقدس تصفية الوجود الوطني من خلال سياسة الاستيطان والتهويد وتفريغ السلطة الفلسطينية من مضامينها الوطنية لتتحول لمجرد اداة تخدم تسوية الامر الواقع والتعايش مع الاحتلال.

للأسف فإن فلسطينيين وعرب يشاركون في تنفيذ هذه التسوية الانفرادية التي بدأها شارون بانسحابه من غزة، ومن المحزن أن غالبية الذين يرفعون شعارات لبيك غزة ونصرة غزة ويختزلون القضية الفلسطينية برفع الحصار عن غزة ويسعون لدولنة غزة متجاهلين ما يجري في الضفة والقدس...، إنما ينفذون سياسة الأمر الواقع الإسرائيلية، إنهم يستكملون مخطط شارون.

أيضا الجهات الدولية المانحة والتي فرضت على السلطة الاستمرار في دفع رواتب موظفي غزة ومدها بالخدمات وبالمشاريع التنموية بعد سيطرة حماس على قطاع غزة، إنما تشارك في هذه التسوية لأنها سهلت على حركة حماس حكم قطاع غزة.

المطلوب اليوم من الفلسطينيين ليس مواجهة اتفاقية أوسلو وتوابعها، فهذه باتت ستارا وملهاة، ولا الجري وراء قرار دولي بهذا الشأن أو ذاك – دون تجاهل أهمية الشرعية الدولية كإحدى أدوات الصراع مع الخصم وليس الأداة الوحيدة – كما لن تجديهم نفعا سياسة الرسائل المتبادلة ولا المراهنة على (الربيع العربي)، المطلوب اليوم التفكير الجاد بمواجهة تسوية الامر الواقع التي مر عليها أكثر من ست سنوات وتتواصل نجاحاتها يوما بعد يوم.

هذه المواجهة تحتاج لإعادة الصراع إلى أصوله كصراع بين دولة احتلال وشعب فلسطيني قوامه اكثر من 11 مليون وتاريخه يعود لأكثر من أربعة قرون، الأمر الذي يتطلب أيضا إعادة بناء المشروع الوطني كمشروع تحرر وطني بعيدا عن حسابات الحكومة والسلطة والتمويل الخارجي ولعنة الراتب والامتيازات.

النخب الحاكمة في غزة والضفة وكذا القوى المتعايشة معها والمتعيشة منها، من احزاب ومؤسسات مجتمع مدني، لا يمكن المراهنة عليها لوحدها للتمرد على تسوية الأمر الواقع لأنها ارتبطت مصلحيا بهذه التسوية بشكل مباشر أو غير مباشر، ولأنها بنيويا ووظيفيا لم تعد قادرة على تقديم اكثر مما قدمت، ولذا على الأغلبية الصامتة داخل الوطن المحتل وخارجه أن تستنهض قواها وتخرج من حالة الانتظار والسلبية لتشارك بفعالية في المواجهة والنضال ولتفرض حضورها على النخبة السياسية الحاكمة ليس كبديل – لصعوبة ذلك الآن – ولكن كشريك قوي قادر على تغيير الخيارات والتوجهات والتأسيس لمرحلة سياسية وطنية جديدة.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 22/نيسان/2012 - 1/جمادى الآخر/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م