من الجميل أن نرى في العراق الجديد، عراق التعددية السياسية
والحزبية والتمثيل النيابي، عراق ما بعد حقبة الاستبداد والقائد
الضرورة، سعي نواب الشعب إلى تحشيد أصوات أقرانهم من أجل استصدار قانون
يحدد صلاحية رئاسة الوزراء بدورتين انتخابيتين، فهذا مؤشر حسن على
الوعي السياسي واستشعار عن قرب لخطورة الإستبداد وضرورة قطع الطريق
أمام تسلط مفردة القائدة الضرورة ومصداقها.
ولكن يا ترى هل هذا هو السبيل الأوحد لمنع عودة الاستبداد؟، وهل
الاستبداد خاص برأس السلطة المركزية؟، وماذا عن الحكومة المحلية؟ وماذا
عن النائب نفسه؟ وماذا عن القيادات التاريخية والأسرية والوراثية
والحزبية التي ألفناها صغاراً وعشناها شباباً وعايشناها كباراً ؟
هذه وغيرها تساؤلات مشروعة، كانت صلب الحوار مع قناة الحوار
الفضائية ليوم الجمعة (6/4/2012م) وهي تستعرض المشكلة القائمة بين
السلطة المركزية في بغداد ورئاسة إقليم كردستان وتداعياتها على الواقع
السياسي العراقي المحلي والخارجي ومستقبل الحكم واتهامات الإقليم
للسلطة المركزية بالاستبداد ورد الأخيرة المنحصر بتمسكها بالدستور
والقانون ورفضها للتوافقات السياسية المستهلكة التي انتهت عند توافقات
مؤتمر أربيل في 8/11/2010م.
ملخص القول أن الشعب العراقي ذهب أكثر من مرة إلى صناديق الإقتراع
لإقرار دستوره وحكومته المنتخبة والبدء بنظام التعددية السياسية
والحزبية، ولم يحدد الدستور العراقي مدة رئاسة الوزراء وذلك لسبب بسيط
جداً، مفترضا وهو الصحيح ضمن المنظومة الديمقراطية، أن رئيس أي حزب أو
كتلة أو تيار هو رئيس وزراء بالضرورة إن فاز بالأكثرية المؤهلة لتشكيل
الحكومة أو لم يحققها، وبتعبير آخر أن زعيم حزب الأغلبية أو الكتلة
الأكبر هو رئيس وزراء مفترض فإذا ما تحققت الأغلبية لدى هذا الحزب أو
تلك الكتلة يصبح زعيمها أو أمينها العام رئيسا للوزراء بالقوة والفعل،
ووزارته محكومة بحسن الأداء على مستوى الحزب والدولة، وهي تفترض أيضا
كلازمة ضرورية أن الحزب الحاكم منفرداً أو ضمن حكومة ائتلافية أو وحدة
وطنية تجري في داخله انتخابات داخلية على مستوى القاعدة والقيادة، ولا
تضع سقفا لأي من أفراد الحزب أو الكتلة أو التيار، فالكل في عيون
الانتخابات الداخلية واحد، كما أنَّ الكل في عيون الانتخابات العامة
واحد، فكما أن المواطن والمسؤول يذهبان إلى صندوق اقتراع واحد ولكل
منهما صوت واحد، كذلك على مستوى الحزب أو الكتلة أو التيار يفترض أن
يذهب القائد والمسؤول وأفراد التيار والحزب والكتلة إلى صندوق الإقتراع
لإجراء انتخابات داخلية دون وضع سقف انتخابي أو إخراج الزعامة الحزبية
والأسرية من دائرة الإنتخابات الداخلية لدواعي القدسية التي ما أنزل
العمل السياسي بها من سلطان.
فإذا تحققت الانتخابات الحزبية الداخلية، فهذا يعني إلغاء منصب
القيادة التاريخية أو القائد الضرورة دون أن يمس ذلك من مكانتها داخل
الحزب وداخل المجتمع، وحينئذ يعتاد الحزبي والمواطن العادي على مشاهدة
وجوه متجددة ودماء جديدة، وعندها يرتفع الخوف من نشوء استبداد على
مستوى الحكومة، ولم تعد الحاجة قائمة لتقييد رئاسة الوزراء بدورتين،
لأن الرئيس التنفيذي عليه سلطتان من داخل الحزب ومن داخل مجلس النواب
فضلا عن الرقابة الشعبية، وللحزب أن يقيله من رئاسة الحزب وبالتالي
دفعه عن رئاسة الوزراء المفترضة والفعلية، من هنا وحينما سألني مقدم
برنامج "أضواء على الأحداث" عن واقع العراق الجديد ومستقبله لم أحر
جواباً وأنا الخلي من أي انتماء حزبي إلا أن أشير إلى حزب الدعوة
الإسلامية كحزب سياسي وحيد داخل التوليفة الحاكمة التي لا تملك قيادة
تاريخية أو قائد ضرورة وله نظام حزبي داخلي وانتخابات عامة، وبتعبير
آخر أن الحزب يمسك بالمقود لمنع استبداد رئيس الوزراء ويملك بيده مفتاح
تغييره.
من هنا فلو أن كل تيار أو كتلة أو حزب داخل العراق أو في غيره من
البلدان تماشى مع النظام الحزبي وعمل بالدستور التعددي السياسي الحزبي
الذي أقرَّه مجلس الأمة، فلا تعد الحاجة إلى كل هذه الجهود الحثيثة
لجمع الأصوات من أجل تحديد مدة رئاسة الوزراء، والمناكفات السياسية
للإطاحة بالحكومة عبر تعطيل مشاريع البناء من القريب والبعيد، وكم
سيبدو الأمر جميلاً لو أن هذه الجهود صُبت من قبل النائب أو النواب
لإجراء انتخابات دورية داخل أحزابها وكتلها وتياراتها شريطة أن لا
يُستثنى أحد، من أصغر عضو إلى القيادة السياسية والدينية مهما علت
قدسيتها في نظر الموالين، لأن التغيير الحقيقي يبدأ من داخل الكيانات
التي تؤلف السلطة الحاكمة والناس بطبيعتها ناظرة إلى أداء الكتل
والأحزاب والتيارات كما تنظر إلى أداء الحكومة المنتخبة، ومن غير
المنطقي أن تدعو الكتل إلى تحديد ولاية رئاسة الوزراء تحت مدعى منع
نشوء الاستبداد وهي بالأساس تضع قياداتها فوق الشبهات وفوق أن يطالها
قانون الانتخابات الداخلية بمزاعم مختلفة ليس لها قدسية في عالم
الإنتخابات، مع التذكير مرة أخرى أن النظام النيابي يفترض أن زعيم
الحزب هو رئيس وزراء بالقوة، فإذا كان رئيس الوزراء المفترض يمثل
بالنسبة لحزبه أو تياره أو كتلته قائدة ضرورة باق ما بقي الدهر فكيف
يصار إلى تحديد ولاية رئاسة الوزراء!
ولنا أن نتذكر قول الشاعر أبو الأسود الدؤلي المتوفى سنة 69هـ من
بحر الكامل:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصومُ
كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسداً وبغياً انه لَدميمُ
ثم يصيب الدؤلي بقافيته الحكمية كبد الحقيقة:
يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلاّ لنفسك كان ذا التعليمُ
لا تنهَ عن خُلق وتأتي مثله ... عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ
إبدأ بنفسك وانْهَها عن غيِّها ... فإذا انتهت عنه فأنتَ حكيمُ
فهناك يقبل ما وعظت ويقتدى ... بالرأي منك وينفع التعليمُ
تصف الدواءَ وأنت أولى بالدوا ... وتعالج المرضى وأنت سقيمُ
في الفترة التي سبقت الانتخابات النيابية العامة الأخيرة التي جرت
في 7/3/2010م والتي قبلها، اقترحت على بعض الأصدقاء من تيار إسلامي كان
فيما مضى يُشار إليه بالبنان أن يُصار إلى إجراء انتخابات عامة داخلية
لا تستثني أحدا بمن فيهم زعيمه الذي ورث الزعامة السياسية الأسرية وأن
يدخل بشخصه في الانتخابات العامة كمرشح انسجاماً مع العملية السياسية
التعددية، وهذا الإقتراح ينسحب على الكتل والتيارات والأحزاب الأخرى،
لكنَّ القيادات المعنية ترفَّعت عن الدخول في حلبة المنافسة الإنتخابية
لحاجة في نفسها قضت على بعض من آمالها وستقضي على البقية الباقية!،
وهنا أُعيد التذكير كمجرِّب مارس العمل الحزبي في الفترة (1976- 1992م)
وكباحث نال عام 2008م شهادة دكتوراه فلسفة في بيان شرعية العمل الحزبي،
بأن أي حزب أو تيار أو كتلة يدعو إلى تنظيم عمل رئاسة الوزراء بدورتين
يفترض فيه أن يمارس العملية الانتخابية من الداخل، فربما قبلته القاعدة
وربما رفضته، وحينئذ يمكن أن اقتنع ويقتنع غيري أن النوايا صادقة في
بناء عراق تعددي نيابي سليم وليست مجرد محاولة للحد من أداء رئيس
الوزراء العراقي الحالي الذي تولى زعامة الحزب بطريقة انتخابية كما
تولى رئاسة الوزراء بالطريقة نفسها، وإذا أساء الأداء فإن الحزب هو
الرقيب، وهو أولى بتقويمه أو استبداله لأن الحزب أو الكتلة أو التيار
الذي يطمع في أن تبقى حظوظه حيَّة في العملية السياسية ينبغي فيه أن
يمارس الرقابة الذاتية قبل الآخرين لتوفر القناعة التامة أن الناس تنظر
وصناديق الإقتراع هي المحك.
وربما يجد بعض أصحاب اللباس الديني ممن يتولون القيادة في هذا
التيار أو هذا الكيان أنه من المعيب الترشيح للانتخابات العامة ودخول
مجلس النواب لأنّ ذلك قد يحط من هيبتهم في عيون الموالين وينزع عنها
لباس القيادة التاريخية والقائد الضرورة التي لا تتغير ولا تتبدل إلا
بزيارة خاطفة لعزرائيل عليه السلام وكل زياراته خاطفة، ولكن الواقع
السياسي التعددي الذي حدَّده الدستور يحتم عليها النزول طواعية عن
عليائها وعدم وضع نفسها موقع العصمة والبقاء مدى الحياة في سدة
القيادة، نعم لها الحق كل الحق أن تتولى القيادة الحزبية حتى آخر رمق
من حياتها لو أن قاعدتها الجماهيرية انتخبتها ضمن سياقات انتخابية
معتبرة وهذا دليل صحة وعافية، لان القاعدة الجماهيرية التي تنتخب
قيادتها ضمن الأطر الانتخابية دليل قوة الكتلة الانتخابية ودليل سلامة
نهجها وصلابة قيادتها حكمتها في تحقيق الانتصارات على مستوى الانتخابات
المحلية والعامة بما فيه مصلحة المواطن، وبالتالي فلا يعد الخوف قائما
من ظهور المستبد مادام الكل يخضع لمشرط الانتخابات الداخلية قبل العامة
والتي لها القدرة على فرز الغث من السمين.
ثم أن على القيادات الدينية السياسية العراقية أن تعتبر من الماضي
البعيد والقريب، فبالأمس البعيد لم تمنع فقاهة وعلمية السيد حسن المدرس
(1870- 1937م) من الترشيح لمجلس الشورى الإيراني ودخول المجلس وتولي
رئاسته، وهو صاحب المقولة المشهورة: "سياست ما عين ديانت ماهست وديانت
ما عين سياست ماهست" أي أن: (سياستنا عين ديانتنا وديانتنا عين
سياستنا)، فلا فصل بين الدين والسياسة، وبالأمس القريب المتواصل لم
تمنع علمية واجتهاد الكثير من علماء إيران من الترشيح للانتخابات في
المجالس المتعددة الشورى والخبراء ومصلحة النظام، ومثل هذا الأمر قائم
في مصر وفي غيرها.
وحتى في حال فشلت القيادة الدينية السياسية في الانتخابات الداخلية
أو على مستوى مجلس النواب فلا يعني هذا آخر المطاف، فالقيادة العاملة
والفاعلة يمكنها أن تمارس دورها في أي موقع وزمان، ولها أن تعيد
الكرّة، صحيح أن المجتمع العراقي لم يتعود مثل هذه الممارسات الشفّافة،
ولكن تعويده هي من مسؤولية المتصدين للعملية السياسية بغض النظر عن
المظهر واللباس، والناس على دين ملوكهم، فما نطلبه في رئاسة الوزراء
ينبغي أن نطلبه أولاً في الكتل السياسية المتخوفة من ظهور المستبد،
والعبرة في الفعل قبل القول، على أن التجارب النيابية في الدول
الديمقراطية المتطورة أثبتت أن الحزب الحاكم هو أحرص من غيره على أداء
رئيس وزرائه لأنه في الأساس لا يريد أن يخسر أصوات الشعب في أية
انتخابات محلية وعامة، أي أن الرقابة الحزبية سابقة على الرقابة
البرلمانية، ولهذا إذا ارتكب النائب جنحة أو جناية أو مخالفة تثلم من
سمعة الحزب فإنها تقيله من مجلس النواب أو تجمد عمله داخل الحزب قبل أن
يقول القضاء رأيه أو أن يقدم المجلس على إقالته، وهذا الأمر ينسحب على
رئيس الوزراء أيضا، ومثل هذا الأداء الفاعل يمكن تطبيقه في العراق على
أن يدخل الجميع من أفندية ومعممين حلبة المنافسة الانتخابية في الدائرة
الحزبية والدائرة الجماهيرية، ولا يعيد أحد مقولة الرئيس الليبي السابق
معمر القذافي الذي كان يتباهى أنه فوق الشبهات لكونه زعيم أمة وقائد
ثورة وليس رئيس حكومة قابل لأن يخضع للمساءلة والمحاسبة.
وتأسيسا على ما سبق، سأستبشر خيراً بالعراق الجديد إذا وجدت صور
القيادات الدينية وقيادات الضرورة تختفي من شوارع المدن وأزقتها إلا
لضرورات فترة الإنتخابات وفي حدود معقولة، وتتخلى الكيانات الحاكمة عن
سياسة النظام السابق الذي زرع في كل زاوية صورة الحاكم فيمسي المواطن
على طلعة الرئيس الضرورة والقائد الضرورة ويصبح عليه، وسأستبشر خيراً
بالعراق الجديد إذا وجدت الزعامة الدينية تنافس الحزبي والسياسي في
الانتخابات الداخلية والعامة، وفيما لو لم تتحقق هذه المسلَّمات
المزيلة لأدران الاستبداد سأبقى أستبشر بالعراق الجديد خيراً، لأن
الانتخابات المحلية السابقة والعامة الثانية على ما شابها من تزوير وما
قيل فيها أفرزت وجوهاً جديدة وضاعفت من حظوظ أحزاب وأضعفت كتلاً أخرى
تمسكت بقيادات موروثة، وفجرت فقاعات حزبية ظهرت على السطح بعد عام
2003م، وسأبقى أستبشر بالعراق الجديد خيراً لأن النظام السياسي التعددي
الحالي على ما فيه من علاّت هو أفضل من الإستبداد، واحترام الدستور
وممارسة القانون وصيانة الوطن أولى من التوافقات السياسية ذات
التجاذبات الإقليمية المتقاطعة في نقاط عدة مع مصلحة الشعب.
* الرأي الآخر للدراسات - لندن |